كان سجن نابلس عبارة عن غرف فسيحة وعالية على نمط العقود القديمة التي كان يبنيها أجدادنا من اللبن والحجارة. بنى الأتراك عدة غرف إلى الشرق من نابلس، وجعلوا منها سجنا للمنطقة، ومركزا أمنيا. وعلى الرغم من أن الغاية من البناء تتراوح بين الذم والضرورة، إلا أن البناء كان تاريخيا، وكان يستحق المحافظة عليه. بالقرب منه، أقام الإنكليز البناية الحكومية المعروفة بالسرايا، والتي أطلقت عليها الحكومة الأردنية اسم المقاطعة.
تم اعتقالي في العهد الصهيوني المباشر مرتين في هذا السجن، وكنت دائما أرى ضرورة تحويل المكان إلى متحف. المكان تاريخي، وموقعه جميل، وغرفه ملائمة لعرض الآثار التاريخية والتراثية. لكن المكان كانت تشوهه قضبان الحديد والأسلاك الشائكة، وحتى أن إحدى غرفه قد أقيمت داخلها زنازين (زنزانات كانت تعرف من قبل المعتقلين بالإكسات) وذلك لحشر الخاضعين للتحقيق. لكن الملاحظة الهامة أن كل الإجراءات والتدابير اليهودية الخاصة بالمبنى لم تكن تؤثر على هيكل وتركيب المبنى. يعني أن الإكسات قد أقيمت داخل إحدى الغرف دون هدم جدران أو إدخال المواد الإسمنتية إلى صلب المبنى، وكان من السهل إعادة كل الغرف إلى حالاتها الأصلية دون تشويه.
اعتقلتني السلطة الفلسطينية في هذا السجن مرة واحدة، وللأسف وضعتني في غرفة إسمنتية في الطابق الثاني داخل غرفة من غرف السجن. نظرت كثيرا إلى المنظر، وسألت الضابط المسؤول عن سبب هذا التشويه والعبث بجدران الغرفة فقال بأنه هو الذي أشار بعمل ذلك. وشرح لي بأنه كانت هناك حاجة لغرف، ولم ير ضرورة للغرف الفسيحة، وأقنع المسؤولين بسهولة بإحداث ذلك التغيير. شرح لي وهو يقول بأن المسؤولين أغبياء ولولا نظرته الثاقبة لما خطرت الفكرة على بالهم.
قام اليهود بقصف السجن بهدف القضاء على الشهيد أبو هنود، ودمروا إحدى الغرف تماما، وأصابوا السجن بأضرار. وبعد ذلك، قاموا بقصف السرايا وألحقوا بها أضرارا جسيمة. ومنذ فترة وجيزة تم تجريف سجن نابلس نهائيا من قبل السلطة الفلسطينية.
كان من المفروض المحافظة على المبنى لقيمته التاريخية أولا، ولأنه من الممكن استغلاله لأغراض إنسانية واجتماعية متعددة. كان من الممكن تحويل المكان إلى متحف وجعله دارا للزوار والسواح. لكن يبدو أن عقل السلطة الفلسطينية قد ضاق بهذا الأمر.
أما سجن جنيد فهو أصلا عبارة عن مستشفى عسكري بنته الحكومة الأردنية، وسقط بيد الاحتلال وهو غير مكتمل (بناية عظم). قرر اليهود تحويله إلى سجن مع بداية الثمانينيات، واقترفوا بذلك جريمة سكت العالم عنها. أبقى اليهود على الشكل الخارجي للمبنى، لكنهم أجروا تعديلات إنشائية جوهرية داخلية عليه بحيث اختفت معالمه كمشفى. لقد اعتقلت من قبل الصهاينة فيه حوالي العام.
استلمت السلطة السجن بعد اتفاقية طابا، وتم اعتقالي فيه مرتين لمدة محدودة جدا. أول ما شاهدت أن السجن ليس نظيفا بتاتا. أعقاب السجاير وقشور البرتقال وغير ذلك ملقاة على الأرض، والذباب يملأ المكان، والرائحة غير الطيبة منبعثة. هذا لم يكن موجودا تحت إدارة اليهود المباشرة. ولاحظت أيضا إضافات إنشائية خارجية، وإذا بها غرف لضباط أو أبناء ضباط. المكان ما زال سجنا حتى الآن، وفيه يجري تعذيب فلسطينيين على أيدي فلسطينيين.
كان على السلطة أن تعيد المكان إلى ما قصد منه، أي إلى مشفى. صحيح أن تكاليف إعادة تأهيل المكان عالية، لكن الذي يتسول من أجل بناء سجون ومقار أمنية بإمكانه أن يتسول من أجل إعادة تأهيل مشفى. المكان يجسد الكثير من الآلام والأحزان، ويجب ألا يبقى كذلك.
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق