قطعان الإعلام والسياسة في فريق "الاعتلال" العربي تتهم المقاومة في فلسطين ولبنان بخدمة "الأجندات الخارجية" وتردد هذا الاتهام بشكل ملح ومستمر. ويواظب أحد كبار أعجاز النخل الخاوية في حزب أيتام "دايتون" على الرغاء والنخير بهكذا تهمة في كل بازار وسوق؛ وهذا الذي ساهم شخصيًّا في تعذيب وقتل واغتيال سمعة عدد من مطلوبي حركة حماس في أواسط تسعينيات القرن الماضي (كانوا مطلوبين للكيان الصهيوني وأذنابه وليس "للشرطة الجنائية") هذا العتل لم يجد ما يطمئن به غزة عشية بدأ الحرب الهمجية الأخيرة عليها إلا أن يعدها بأن النصر الصهيوني قريب وأن "الأجندات الخارجية" ستسقط (وكالعادة أخزى الله المنافقين وأخلف مواعيدهم). ومؤخرا على خلفية أزمة "خلية حزب الله" تكاثرت الأبواق المصرية الرسمية التي تردد التهمة ذاتها؛ وكما هو متوقع تجيء الكلمة من فم أزلام فرعون أكثر إضحاكًا وأكثر إسفافًا وإغراقًا وتنقعًا في الرذيلة. ولا أخفيكم أنني شخصيا أحب أن أتابع رجال إعلام ومسؤولي هذا النظام اللعين في البرامج السياسية على تلفزيونهم "الألعن"؛ حتى أضحك قليلاً من قلة عقل منتجي أجندات وبيانات الفجور والرذيلة في خصومة الجهاد والمقاومة وثوابت الأمة. وأحب كذلك أن أقرأ في صحافتهم حتى اتعظ واعتبر وأقول كما قال ابن بطوطة حين حضر خطبة جمعة في البصرة مملوءةً لحنًا وخطأً...يومها قال ابن بطوطة: "هذه البصرة التي إلى أهلها انتهت رياسة النحو، وفيها أصله وفرعه، ومن أهلها إمامه الذي لا ينكر سبقه، لا يقيم خطيبها خطبة الجمعة على دؤوبه عليها"! فأنا أقرأ جريدة الأهرام وأقول: "أهذه مصر الرافعي والعقاد وزكي مبارك؟ فسبحان الذي رفع العلم والفهم من منابر أرض الكنانة الصحافية واستبقى "أسامة سرايا" وأمثاله لحكمة من عنده يستعملون على مناصب الكتابة الرفيعة"!
ومن المجدي والمثير في حمأة هذا التكالب على المقاومة أن ننتبه إلى أن تاريخ الحرب على حركات التحرر والمجاهدين يكشف أن الغزاة لطالما رددوا عين تهمة حمل الأجندات الخارجية هذه - وإن تغيرت شخوص المتهمين بطبيعة الحال بسبب اختلاف ظروف الزمان والمكان - في إطار نزع الشرعية عن جهاد المجاهدين. فلا بد من مؤامرة خارجية تجند هؤلاء المقاتلين من أجل الحرية؛ ولا بد من يد محركة محرضة من وراء الحدود؛ ولا بد أن مبلغًا من المال هو الذي يحسم الصراع النفسي داخل كل مقاتل من مقاتلي القسام: "هل أخرج لأفجر نفسي في العدو أو لا أفعل"! لا بد أن يكون كل هؤلاء الفدائيين والمرابطين والأبطال قتلة مأجورين أو طلاب مغانم شخصية؛ ولا يصح أن يكون أبناء العروبة والإسلام مدفوعين بحاجتهم الطبيعية والبديهية لقتال الغزاة؛ ولولا "إيران" لما قاتلت حماس ولما احتيج لكل هذه المعاناة في محاربة الصهاينة - كأن فلسطين لم تقاتل حتى قامت حماس أو كأن حماس لا تقاتل لولا وجود دعمٍ ما من إيران. ولأن هذه التهمة أصبحت أكثر جريانًا على ألسنة فرعون وزبانيته؛ فإن من الأوقع في النفس - ونحن نحاول أن نثبت أنها بضاعة الاستعمار القديمة الجديدة - أن نأتي بمثال على ترديدها والنفخ فيها من التراث السياسي المصري نفسه؛ فكيف كان ذلك؟
تجيء الإجابة من إحدى صفحات تاريخ الحملة الفرنسية على مصر. صحيحٌ أن أكثر المصريين يدرس تاريخ البلاد من مناهج التعليم؛ وصحيح أن أكثر هذه المناهج قد تم نزع أكثر ما فيها من تفاصيل عربية وإسلامية وحشيت عوضًا عنها بمطولات عن "منقرع" و"حتشبسوت" وما إلى ذلك؛ وصحيح أن "أمريكا" تشترط دائمًا في اتفاقيات مكتوبة ورسمية أن يتم تغيير مناهج التاريخ واللغة العربية والتربية الإسلامية؛ وتقرن معونتها المالية للفرعون بتلك الشروط (بالمناسبة هم لا يطلبون تغيير مناهج العلوم والرياضيات أبدًا ويرون أن على الأمة أن تستمتع بالتخلف الذي هي فيه وليس في الإمكان أبدع مما كان) وصحيح أن آخر جولات غسيل الوعي والذاكرة قد تمت برعاية المثلية "ليز تشيني" ابنة نائب الرئيس الأمريكي الأسبق "ديك تشيني"؛ وصحيح أن أكثر زبانية النظام المصري هم من الجهلة والسفلة ولن يكون مستبعدًا عنهم الجهل بألصق الأحداث بتاريخ بلادهم؛ وصحيح أن أكثر المصريين والعرب يعتقد أن حملة نابليون على مصر كانت "معسكرًا كشفيًّا" أفضى إلى إدخال الطابعة إلى العالم العربي (طبعًا دخلت لطباعة بيانات الاحتلال وخرجت بالمناسبة معه حين خرج) ولا يدري عن المذابح التي دارت من قرية لقرية في دلتا النيل وعلى الطريق من الاسكندرية إلى القاهرة؛ فضلاً عن مذابح القاهرة نفسها وما صاحبها من حرق ونهب واغتصاب - أقول كل هذا صحيح؛ لكن لدي أمل بأن بعض البعض لا زال يفهم ويعرف أن ما نفذه نابليون كان احتلالاً؛ وأنه أيضًا استدعى مقاومة كما فعل العرب والمسلمون على الدوام تجاه أي غازٍ وكما تفعل كل شعوب الأرض تجاه من يدهم أرضها.
إذًا أطلقت مصر حينها عدة موجات لمقاومة الفرنسيين؛ وقد تنوعت هذه الموجات بين تصدي السلطة الحاكمة آنئذ - المماليك - للغزاة في معارك خاسرة عكست فجوةً حضاريةً عمرها ستة قرون (منذ أن صدت مصر هجمة فرنسي آخر هو "لويس التاسع" وهزمته وأسرته) وانتقلت الراية للجمهور بعد أن سقط النظام - أو فرت أركانه للصعيد - ونفذ الأهلون ثورتين كاسحتين ضد المحتل؛ وتوجت الأعمال الحربية للمقاومة بعملية الاغتيال الناجحة للحاكم الفرنسي العسكري على مصر ونائب نابليون فيها - المدعو "كليبر".
يومها عز على الفرنسيين أن يروا مجموعة من شباب الشرق العربي المسلم والمتدين - من طلاب الأزهر - يدبرون خطة فريدة من نوعها لاغتيال رأس العدو في القطر المحتل؛ ولذلك اتجهت تحقيقاتهم الوحشية وما مارسوه فيها من تعذيب لفرض رواية تقول أن بطل العملية "سليمان الحلبي" قد نفذ الهجوم استجابة لطلب ضابط تركي؛ بعد أن شكا له سليمان من فداحة الضرائب الباهظة المفروضة على أبيه فوعده الضابط بمراجعتها إن هو ذهب إلى مصر وأسدى له خدمة اغتيال قائد الفرنسيين فيها - هكذا بكل سذاجة وبساطة وتسطيح! فبالنسبة للفرنسيين كان من الضروري أن تعقد خيوط مؤامرة كبرى تصل قتل قائدهم بضباط عثمانيين ربطتهم في النهاية بالصدر الأعظم في "استانبول"! وكان لا بد من ضرب المتهمين ضربًا مبرحًا ليضطروهم للاعتراف بأن ما كان عملية استشهادية رفيعة لم يزد على أن يكون مؤامرة رخيصة للقتل حركها بريق الذهب العثماني!
ودون دخول في تفاصيل وضع مصر الإداري في تلك الحقبة - حيث كانت علاقة المماليك بالدولة العثمانية صورية وكانت مصر شبه مستقلة عن السلطان باستثناء بعض الشكليات التي لا تقدم ولا تؤخر - فإن الدولة العثمانية كانت بمثابة "قوة إقليمية" خارجية قادرةٍ افتراضًا على أن تؤثر في الوضع المصري (مثلما هي إيران في منطقتنا اليوم وإلى حد كبير) وكان من الأحسن للفرنسيين أن يلحقوا "المقاومة" كتهمة بالعثمانيين على أن يقروا علنًا بأن المصريين العرب المسلمين - ومن عاونهم من العرب والمسلمين الآخرين - هم من يقاتلهم ويرفض وجودهم من منطلقات شعبية أصيلة لا يد للخارج فيها؛ أو على الأقل لا تحتاج للخارج ليعطيها الدوافع الأساسية للتحرك.
فما الذي تغير بين الأمس واليوم؟ بالأمس كان الاحتلال يردد دعاية "الأجندات الخارجية" بلسانه الأعجمي الأعوج؛ أما اليوم فهو يجدد في فولكلور محاربة المقاومة؛ وينجح في تجنيد عشرات السياسيين والزعماء والقادة والصحافيين ورجال الإعلام من العرب الأقحاح من المحيط إلى المحيط للنخير بدعواه وتكرارها. افتحوا صحف الصباح في أي بلد عربي ولن تعدموا أحد هؤلاء "الهمل" الذين صيرته المقادير كاتبًا - كأن الكتابة الصحافية في العالم العربي صارت معادلاً للعمل في "البحرية" في أمريكا - يتحدث عن الخطر الإيراني والارتهان لإيران بذريعة المقاومة (طبعًا هو يقول ذلك ولا يفكر حتى في رفع الرضاعة الأمريكية من فمه وهو يحدثنا عن استقلال القرار؛ وربما هو يشعر بالفخر لوجود اسمه على موقع وزارة الخارجية الصهيونية أو الحزن لعدم وضع اسمه في قائمة "عدم الشرف" بعد!)
بالأمس كانت جماهير الأمة - حتى تلك التي هي تحت حكم الأمراء المصلحيين وولاة الدنيا المشغولين بملكهم - تنفر للجهاد والقتال ونصرة إخوانها تلقائيًّا وبالحد الأدنى من الحشد والتجييش. يقول أحد مؤرخي حملة نابليون على مصر بخصوص المدد القادم للمجاهدين المصريين من البلاد العربية: " وكان أرهب الأمداد المقاتلون العرب القادمون من الحجاز؛ والذين عبروا البحر الأحمر بالآلاف؛ وقد زعموا كلهم أنهم من سلاسة الرسول (صلى الله عليه وسلم) وكانوا يلبسون العمائم الخضراء. ومع أن شريف مكة لم يشجعهم على الانضمام لمراد (حاكم المماليك) فإنه لم يفعل شيئا لثنيهم. وقد أرسل في الوقت ذاته الرسائل الودية لبونابرت لأن موارده كانت تعتمد إلى حد كبير على ما يصدره من البن إلى مصر". أما اليوم فإن إمداد المقاتلين ممنوع؛ ومن يفعل ذلك "مجرم" يمس "بالأمن القومي" وينفذ "أجندات خارجية" (يقولون ذلك دون أن يرف لهم جفن وهم الذين يخبرهم السفراء الأمريكيون بكل ما يجب أن يفعلوه وما يجب أن ينتهوا عنه) فإن كانوا عاجزين عن أن يكونوا مقاومين في ذوات أنفسهم؛ فماذا عليهم لو كانوا مثل "شريف مكة": لا يرضون عن دعم المقاومة ولا يسخطون أيضًا؛ ويحافظون على البن في الوقت نفسه؟!
ولو فحصنا حادثة اغتيال "كليبر" أكثر لوجدنا أن منفذ العملية من سوريا - سليمان الحلبي - وأن اثنين من الذين اعتقلوا معه بتهمة تخطيط العملية وتدبيرها كانا من غزة - الشيخان محمد وعبدالله الغزي - وكان جميع الأربعة المتهمين بالقضية بمن فيهم سليمان من طلاب الأزهر "المولودين ببر الشام" كما قال الجبرتي مؤرخ الحملة من الجانب العربي المسلم؛ فهل يفهم مبارك ومطبلوه ومبخروه مغزى هذه المعطيات؟ هل يفهمون أن الأمة حري بها أن يشد بعضها أزر بعض حين يتعرض قطاع منها للغزو والاحتلال؛ وأن التناصر على المحتل ليس فيه "تحميل جمايل" فغزة تدافع عن مصر ومصر تدافع عن غزة (أو هكذا كان ينبغي؟!)
لكن أملي في أن يفهم هؤلاء مقطوع لأن همتهم أحط من ذلك؛ فمن العبث توقع أي التئام في "شرم الشيخ"؛ وأكاد أزعم أن من سوء الأدب مع الله سبحانه وتعالى - والله تعالى أعلم - أن يدعو المرء للمختوم على قلوبهم هؤلاء بأن يسمعوا ويعقلوا...ومع ذلك لا بأس في قرع رؤوسهم بهذه الأدلة التاريخية والموضوعية والتي لا تكذب حين تحكم بأنهم عملاء وأجراء للمحتل يرددون نفس مقالاته؛ ولا بأس أيضًا في أن نثبت قلوب إخواننا بالحجة والدليل أنهم على الحق؛ وأن عزاءهم فيما ما نزل بهم من نوازل أنهم قد سبقهم إخوانهم من المجاهدين في السلف الصالح إلى معاناتها ومكابدتها؛ "وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين"؛ وبإذن الله ستسقط الأجندات الخارجية فعلاً هذه المرة – الخارجية على المعنى الصحيح في تولي أمريكا والصهاينة – وسيبطل سحر العملاء ويفسد صنيعهم؛ وستكون حال جيش محمد صلى الله عليه وسلم من حال قائدهم من حيث يقول رب العزة: " وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين".
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق