تشهد المنطقة العربية هذه الايام 'حراكاً' يثير القلق، قلقنا نحن على الاقل، فمن المفترض ان يحل بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الاسرائيلي ضيفاً على الرئيس المصري حسني مبارك في منتجع شرم الشيخ، وهناك انباء تتردد عن وجود اتصالات لعقد قمة ثلاثية مصرية أردنية اسرائيلية تسبق زيارة رئيس الوزراء الاسرائيلي لواشنطن، مطلع الاسبوع المقبل، ناهيك عن اعلان البيت الابيض عن عزم الرئيس الامريكي باراك اوباما اختيار القاهرة لتوجيه خطاب الى الأمتين العربية والاسلامية مطلع الشهر المقبل.
ولا ننسى في عملية الرصد هذه الزيارة التي يقوم بها بابا روما الى المنطقة، عارضاً المصالحة مع الديانة اليهودية، ورافضاً تقديم اي اعتذار للمسلمين على الاهانات التي وجهها اليهم والى عقيدتهم وربطها بالارهاب، وتهجمه على الرسول صلى الله عليه وسلّم، ودون ابداء اي تعاطف مع المستضعفين المحاصرين المجوَّعين من قبل الاحتلال الاسرائيلي.
خطورة هذا الحراك تأتي من كونه يكسر العزلة الدولية، ولو على الصعيد الشعبي، المفروضة على اسرائيل بسبب جرائم الحرب التي ارتكبها جيشها وجنرالاته في قطاع غزة، وعملياتها الاستيطانية المتواصلة لاكمال تهويد القرى المحتلة، وتشريد الآلاف من ابنائها العرب.
الاسرائيليون، كعادتهم، استطاعوا ارهاب البابا وابتزازه قبل وصوله الى القدس المحتلة بتذكيره بماضيه الالماني النازي (انضمامه في صباه الى الشبيبة الهتلرية) للحصول على اعتذار صريح منه لليهود، واظهار كل تعاطف ممكن مع الدولة الاسرائيلية وتجنب اي انتقاد لمجازرها وجرائمها بحق ضحاياها العرب.
الحلقة الاهم في هذا الحراك المكثّف هي الزيارة التي من المقرر ان يقوم بها الرئيس الامريكي الى القاهرة في الرابع من حزيران (يونيو) المقبل، والخطاب الذي سيلقيه اثناءها، ويرسم فيه الخطوط العريضة لسياسته الجديدة في المنطقة، والشق المتعلق منها بالعملية السلمية بين العرب والدولة العبرية.
' ' '
هناك عدة ملاحظات لا بد من التوقف عندها بتمعن لاستقراء ما بين سطور هذا الحراك، وزيارة اوباما على وجه الخصوص:
ـ أولاً: لا شك ان اختيار مصر كمنبر لمخاطبة العالمين العربي والاسلامي هو تأكيد على اهميتها ومكانتها الاستراتيجيتين، وتصحيح لسابقة تقديم تركيا عليها، ولكن هذا الاختيار جاء مدروساً بعناية، وبهدف تحميل قيادتها مسؤولية التسويق، وربما تطبيق خطة السلام الامريكية التي سيحملها الرئيس اوباما في جعبته، وتتضمن تعديلات جوهرية للمبادرة العربية، أبرز ملامحها حذف البنود المتعلقة بحق العودة للاجئين الفلسطينيين، والقبول باسرائيل دولة يهودية، واطلاق عملية التطبيع معها، مقابل قبولها بحل الدولتين.
ـ ثانياً: تأتي زيارة الرئيس اوباما بعد اطلاقه تصريحات تؤكد على القدس المحتلة عاصمة ابدية للدولة الاسرائيلية، وتجديد ادارته للعقوبات الاقتصادية المفروضة على سورية، واستبعادها كلياً من المجهود الدبلوماسي الامريكي الحالي، رغم ان أراضيها محتلة، وتستضيف على اراضيها قيادات لحركات المقاومة الفلسطينية الفاعلة على الأرض.
ـ ثالثاً: لم يتطرق الرئيس اوباما مطلقاً لمسألة الديمقراطية والحريات الاساسية في خطاباته، وهو الرئيس الذي يمثل حزباً ديمقراطياً، واختياره مصر المحكومة بنظام ديكتاتوري، يطبق الاحكام العرفية، ويمهد الطريق للتوريث، يعكس تناقضاً كبيراً بين أقواله وأفعاله.
ـ رابعاً: جوزيف بايدن نائب الرئيس الامريكي كشف عن الخطوط العريضة لسياسة ادارته في الشرق الاوسط عندما طالب اسرائيل بالقبول بحل الدولتين، ولكنه طالب العرب في الوقت نفسه بتقديم تنازلات جديدة، وتعديل المبادرة، والبدء في التطبيع.
ـ خامساً: استقبال الرئيس مبارك لرئيس الوزراء الاسرائيلي في شرم الشيخ، بعد رفضه لحل الدولتين، وحديثه عن سلام اقتصادي فقط، وتعهده بمواصلة الاستيطان، وتأكيده على رفض الانسحاب من هضبة الجولان السورية المحتلة، كلها مؤشرات على تجاوب مسبق مع الاشارات الامريكية بضرورة التسريع بعمليات التطبيع، والتقارب مع الحكومة الاسرائيلية الحالية التي توصف بأنها الاكثر تطرفاً منذ قيام الدولة العبرية.
' ' '
قلقنا يعود الى اسباب عديدة، ابرزها ضعف العرب، معتدلين كانوا ام ممانعين، وخروجهم كلياً من دائرة الفعل على الصعيدين الاقليمي والدولي، الامر الذي ربما يجعلهم فريسة سهلة لضغوط امريكية اسرائيلية، تؤدي الى التفريط بالثوابت الاساسية لقضية الصراع العربي الاسرائيلي، من خلال تعديل ما تسمى بمبادرة السلام العربية لتتجاوب مع 'التحفظات' الاسرائيلية.
فاللافت ان العرب مغيبون تماماً، او بالاحرى لا دور لهم مطلقاً في الأزمات الرئيسية التي تحتل قمة اولويات ادارة الرئيس اوباما، مثل الحربين الامريكيتين في العراق وافغانستان، والتوتر الحالي الناجم عن تقدم البرنامج النووي الايراني، واقترابه من اكمال عمليات التخصيب الكافية لانتاج اسلحة نووية.
قبول العرب، ونحن نتحدث هنا عن الأنظمة، لأي مبادرة امريكية جديدة للسلام (تحدث توني بلير المبعوث الدولي عنها باسهاب) سيعني الانخراط في حلف امريكي اسرائيلي لسحق حركات المقاومة في فلسطين ولبنان باعتبارها عقبة رئيسية على طريق تطبيعها. ورفضهم لها يعني تبرئة اسرائيل، وتحميل العرب في المقابل مسؤولية تعطيل عملية السلام في المنطقة.
الخيار العربي الرسمي يجب ان يأتي متطابقاً مع نظيره الشعبي، اي التمسك بالثوابت، بل وتعديل المبادرة العربية للسلام بشكل يضيف اليها بنودا جديدة، مثل التأكيد على تطبيق جميع قرارات الشرعية الدولية التي تنص على عودة جميع اللاجئين الى ديارهم، وتعويضهم عن سنوات اغتصاب اسرائيل لأرضهم واستغلالها لمياههم وبحرهم وثرواتهم الطبيعية على مدى ستين عاماً.
العراق ما زال يدفع لاسرائيل تعويضات عن قصفه لها بأكثر من اربعين صاروخاً اثناء العدوان الامريكي عليه عام 1991، فلماذا لا يطالبها العرب بالمثل اثناء زيارة اوباما؟ اي ان تدفع اسرائيل تعويضات اخرى لقصفها المفاعل النووي العراقي، ومدرسة بحر البقر ومدن القناة في مصر، وغزو لبنان مرتين، وتدمير قطاع غزة والقائمة طويلة.
زيارة اوباما لمصر لا يجب ان تكون 'منّة' يدفع العرب مقابلاً ضخماً لها، وانما لاجراء مراجعة شاملة لسياسات امريكية ظالمة ومنحازة ضد العرب، والمطالبة باعتذارات علنية عن كل ما سببته من مآس، مثل خلق مليون ارملة وخمسة ملايين يتيم، وقتل اكثر من مليون ونصف مليون انسان وتشريد اربعة ملايين آخرين وتدمير بلد مستقر اسمه العراق.
ما نسمعه ونشاهده ونقرأه في اوساط الاعلام الرسمي المصري بكل انواعه يوحي بالعكس تماماً، وعلينا ان نتوقع كارثة جديدة، بسبب هذا الحراك ونتائجه، تكون اسرائيل هي المستفيد الاكبر في نهاية المطاف مثلما جرت العادة دائماً. فيبدو ان ما تغير في البيت الابيض هو لون الرئيس وقفازاته، اما السياسات فمتقاربة ان لم تكن متطابقة، ونأمل ان نكون مخطئين.
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق