ما يجري الآن في حركة "فتح" أنّ هناك مجموعة عمادها الأساسي أربعة أشخاص يحركون خيوط انعقاد المؤتمر العام لحركة "فتح" وهؤلاء هم: الرئيس الفلسطيني محمود عبّاس، ومحمد دحلان، وحسين الشيخ، وحكم بلعاوي. أمّا الأسماء الأخرى سواء من قيادات الداخل من أمثال مروان البرغوثي، وأحمد قريع، وعزام الأحمد، وآخرين فهم في موقع رفض أو قبول ما يطرح عليهم، وذلك وفق حسابات معقدة، ولكن السؤال إلى أي مدى يؤثّر رفض هؤلاء في عرقلة ما قرر عباس – دحلان – الشيخ - بلعاوي، فعله، وهل يريدون ذلك أصلا؟!. أمّا قيادات الخارج التاريخية، وتحديدا فاروق القدومي، ومحمد غنيم، ومحمد جهاد، وغيرهم فقد تم سحب البساط من تحت أقدامهم وهامش ما يمكن أن يفعلوه بات محدودا للغاية.
الفكرة الأساسية في المعادلة التي يتحرك بموجبها عباس ودحلان والشيخ وبلعاوي، هي أنّ قيادات الخارج لا يوجد لديها امتداد تنظيمي ميداني على الارض سواء في فلسطين أو في الخارج، فهؤلاء إمّا أن دورهم التاريخي كان في المجال الدبلوماسي والتنظيري والإعلامي، من مثل القدّومي، أو أنّ العودة الفلسطينية إلى الداخل بعد اتفاقيات أوسلو أنهت الدور التنظيمي والعسكري لأمثال محمد جهاد، أحد القادة العسكريين والمسؤولين عن انتفاضة العام 1987، وكذلك دور محمد غنيم، الذي كان جزء كبير من دوره، على رأس التعبئة والتنظيم في الحركة (المسؤول عن العضوية وشؤون الانضباط والعمل التنظيمي) قد انتقل إلى أحمد قريع، مفوض التعبئة والتنظيم في الداخل، (وقبل ذلك إلى هاني الحسن). ولعل الأنباء عن إلغاء الرئيس عباس حجز تلك القيادات في الفنادق في عمّان عندما قرر وضع حد لاعمال اللجنة التحضيرية لحركة "فتح" يتضمن رسالة واضحة أنّه حتى على صعيد الإمكانيات المادية فإنّ قدرات تلك القيادات محدود للغاية، في حركة باتت تعتمد على كادر واسع من أشخاص تم استيعابهم في أجهزة أمنية وفي وظائف مدنية وإدارية ودبلوماسية، ولم يعد هناك تنظيم شعبي طوعي حر حقيقي، هذا فضلا عن أن "التنظيم" خارج فلسطين قد أهمل إهمالا شبه كامل منذ عودة القيادة الفلسطينية إلى فلسطين، والكوادر الموجودة في الخارج أغلبها متقدمة في السن نسبيّا، من دون تجديد حقيقي في الحركة، وهؤلاء الموجودون في الخارج لا يوجد لهم نشاط شعبي حقيقي، وهم حالات معزولة أغلبيتهم العظمى بدأت علاقتها بحركة "فتح" قبل العام 1990، ولا يوجد هيكلية ارتباط واضحة مع قيادة الحركة (غير محددة المعالم أصلا).
أمّا في داخل فلسطين، فلا بد من التنبه لمجموعة حقائق؛ هي أنّ الخلافات بين مجموعة الأربعة من جهة، وبين باقي الأسماء – مع بعض الاستثناءات - ليست فكرية أو سياسية أو مبدئيّة كما هي مع أشخاص مثل القدومي ومحمد جهاد، فربما باستثناء حالات مثل حسام خضر في نابلس وبعض الحالات الشبيهة، فإنّ كثيرا من الكوادر ذات التوجه السياسي المتمايز وأصحاب المشروع المحدد للمقاومة قد آثروا إلى حد كبير الانسحاب والانزواء من النشاط العام والسياسي، أو هم يتأرجحون بين النشاط والانعزال من دون رابط بينهم ومن دون مشروع بعيد المدى. وإذا كان هناك الكثير من الكوادر التي لا يعرف عنها الإعلام شيئا وآثرت الانزواء، فإنّ أحد الأمثلة على حالات التأرجح والتحول عن النشاط السياسي والتي غطّاها الإعلام، حالة زكريا الزبيدي، قائد كتائب شهداء الأقصى في جنين، (سابقا) الذي يتحول حينا للعمل في فرقة مسرحية ويعود للنشاط السياسي حينا آخر. والمعطى الثاني، في موضوع قيادات الداخل، أنّه لا يوجد قيادة ميدانية وطنيّة جامعة. أي لا يوجد قيادة عابرة للمدن والمناطق، لها موقعها التنظيمي ونفوذها وصلاتها في كل مدينة وقرية ومخيم، كما كان الحال سابقا مع قيادات تاريخية مثل خليل الوزير. وحتى بعض الأسماء التي كان لها مثل هذه المكانة سابقا مثل أبوعلي شاهين، وربما بدرجة أقل عبّاس زكي، وجبريل الرجوب، ومحمود العالول، وآخرين فقد فقدوا كثيرا من مكانتهم وصلاتهم السابقة، لأسباب منها دورهم في السلطة، وطبيعة تركيب التنظيم وتفتت الأجهزة الأمنية بعد أوسلو. وإذا أردنا وصفا أدق لمسألة القوة التنيظمية لقيادات الداخل، فيمكن القول إنّ قيادات الداخل فقدت الكثير من قاعدة قوتها التنظيمية – العابرة للمناطق – في السنوات الأخيرة، مع استثناء واحد تقريبا رئيسي، هو محمد دحلان. فرغم أنّ "الحسم العسكري" الذي مارسته "حماس" في غزة أضعف كثيرا قاعدة دحلان هناك، فإنّ تحركاته منذ ذلك الحين في الضفة الغربية وحتى في ساحات الشتات الفلسطيني عززت موقعه كثيرا، مستفيدا من أدوات كثيرا بدءا من وسائل إعلامية تلفزيونية وإذاعية وإلكترونية أسسها وتبث داخل فلسطين وخارجها، مرورا بقدرات تمويلية، وصولا لقدرته وصلاته مع جهات مانحة دولية بحيث أصبحت له قدراته في تأمين تمويل ومساعدات للكثير من الجمعيات والمؤسسات التي تعود "ملكيتها" إلى كوادر في حركة "فتح"، وهذا كله عزز موقعه التنظيمي، فضلا عن أنّه ما يزال من خلال علاقته الخاصة مع محمود عبّاس لديه قدرة في صياغة القرار الفلسطيني وتحديد كثير من القضايا والمناصب والمكاسب الإدارية والمالية. وحتى في حالة قيادي مثل مروان البرغوثي، فقد تراجعت قوته بلا شك، لا بسبب وجوده في الأسر، وحسب، بل ولأنّ العوامل التي جعلته يبدو قبل سنوات حالة فريدة في "فتح" عابرة للمدن والقرى والمخيمات والمواقع التنظيمية، قد انتهت. فمروان تقيلديّا موجود في القطاع الطلابي وفي منطقة رام الله، حيث يوجد له منافسون تنظيميون كثر أيضاً، من ضمنهم حسين الشيخ، ولكن علاقته الخاصة مع الراحل ياسر عرفات، باعتباره رجل مهمات خاصة في التفاعل مع الكادر الميداني الشاب، وخصوصا في حالة تأسيس ورعاية "كتائب شهداء الأقصى"، هي التي جعلته مرشحا للتحول لقيادة وطنية جامعة، وكل هذا انتهى الآن، وبقي لمروان مكانة شعبية. وعمليّا هناك جهود حثيثة للقيادات الطامحة في "فتح" للتفاعل مع الكوادر والساحات المفككة المتناثرة، فتحرك أحمد قريع من خلال "التعبئة والتنظيم" وعقد مؤتمرات الأقاليم (المناطق) لمد هذه العلاقات، وجبريل الرجوب من خلال اللجنة الأولمبية واتحاد كرة القدم والتعامل مع الأندية الرياضية، ودحلان من خلال الإعلام المحلي والجمعيات والاتصالات الشخصية، ويبدو أن الكفة تميل لصالح الأخير.
بل إنّ عدم تعيين شخصيّة من "فتح" على رأس الحكومة الفلسطينية بعد أحداث غزة، خدم بطريقة ما دحلان، لأن تعيين شخصية تنظيمية قيادية في "فتح" كان سيضع في يدها إمكانيّات ومداخل لتعظيم مكانتها داخل مناطق التنظيم المختلفة، وسيؤدي إلى تعزيز فرص هذه الشخصية في التنافس على القيادة.
عامل الاستقطاب والحسم حاليّا، هو من يستطيع أن يأتي بقيادات الأقاليم في الضفة الغربية لجانبه، وقد كان إعلان الرئيس عبّاس قبل أيّام تحديد موعد انعقاد المؤتمر العام في بداية تموز المقبل بحضور واسع لقيادات المناطق والأقاليم والمؤسسات الشعبية، تمت دعوتهم بعيدا عن مكتب التعبئة والتنظيم في الاراضي الفلسطينية الذي يرأسه احمد قريع، نوعا من الرسالة أنّ هذه القيادات الميدانية التي أفرزت عبر انتخابات مناطقية ستؤيد عبّاس ومن معه، ما يضعف كثيرا مواقف قيادات الخارج وقيادات الداخل المنافسة.
فلا يستطيع عزام الأحمد وعبدالله عبدالله وقريع وآخرون المضي في محاولة تعظيم مكاسبهم ورفض حكومة سلام فياض وطلب الحلول مكانها كثيرا إلا إذا كان لديهم قدرة على إقناع قيادات المناطق أن لا يتجاوبوا مع المؤتمر العام على النحو الذي حدده عبّاس، ولا يبدو أن الأمر ممكن، أو وارد، وسيكون من الممكن التوصل لتسويات بين الأطراف المختلفة بهذا الشأن. بل إنّ عقد المؤتمر في الداخل يحقق لهم مكاسب عديدة، لذا من الطبيعي، في محصلة هذه التفاعلات، أن ينعقد المؤتمر العام، وفق المحددات التي أعلنها عبّاس. وأنّ المؤتمر سيكون له دور في مأسسة وإسباغ شرعيّة على توازنات القوة الراهنة، التي لا يوجد لقيادات الخارج نصيب كبير فيها، وسيحسم المؤتمر الكثير من أوجه التنافس الداخلي بين قيادات الداخل.
هذا كلّه قد يعني أن حركة "فتح" قد تتخلص من جزء كبير من الفوضى فيها، وأنّ الخيار الآن هو أنّه بدل توحيد الحركة ولمام شعثها المتناثر والمشتت، فإنّ القرار هو تهذيب الحركة بقص الكثير من الأفرع والامتدادات، وإنهاء علاقتها بالحركة، والحفاظ على من يستعد للتساير وفق رؤى محددة يغلب عليها منطق "السلطة" من دون برامج عمل سياسية ونضالية محددة، أو متناسقة مع البرامج والشعارات التاريخية للحركة، ومن دون نشاط أو برامج حقيقية للعمل في مناطق الشتات الفلسطيني، والتركيز على ساحة الداخل والدبلوماسية والتفاوض والتنظيم المختلط والمتداخل مع السلطة، وهو ما سيعزز صورة الحركة باعتبارها حزبا حاكما، وسيغيّر من صورة الحركة السابق باعتبارها حركة جماهيرية وطنية جامعة إلى حزب وتنظيم.
* كاتب وباحث أُردني يقيم في الإمارات. -
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق