لا يمكن تفسير الانقسام الخطير الذي ظهر داخل حركة فتح على خلفية الموقف من حكومة سلام فياض الثانية، والذي عبر عن نفسه بشكل علني من خلال ظهور معسكرين، الأول يقوده الرئيس ويؤيد الحكومة ودافع عن تشكيلها بالشكل الذي خرجت فيه، والثاني عبرت عنه كتلة "فتح" البرلمانية لدرجة امتناع اثنين من اعضائها المرشحين للمشاركة في الحكومة، في آخر لحظة عن المشاركة في حلف اليمين، إلا كأحد انعكاسات الأزمة الشاملة المندلعة داخل حركة فتح وتمنعها من عقد المؤتمر السادس حتى الآن، رغم بدء التحضير لعقده منذ حوالي عامين حتى الإعلان المتكرر عن مواعيد لعقده، لكنها مضت دون عقده.
من الجيد الاتفاق بين المعسكرين على تجميد الصراع على الحكومة لحين عودة الرئيس من زيارته للولايات المتحدة الأميركية، ولكن الأفضل أن نبحث في أسباب الخلاف وكيفية حله. فاستمرار الصراع كان يمكن ولا يزال يهدد بانهيار كل شيء.من سوء حظ الدكتور سلام فياض أنه كلف بتشكيل وإعادة تشكيل الحكومة للمرة الثانية، بعيد تفجر الأزمة بين الرئيس أبو مازن واللجنتين المركزية والتحضيرية على خلفية موعد ومكان عقد المؤتمر حيث دعا الرئيس الى عقده في الأرض الفلسطينية المحتلة، وأصرت اللجنة التحضيرية بدعم من اللجنة المركزية على القرار السابق الذي اتخذ بالإجماع ويقضي بعقد المؤتمر خارج فلسطين.
أن أزمة "فتح" بدأت بعد فشل استراتيجية المفاوضات واتفاق أوسلو وفشل نموذج السلطة الذي تحملت أوزاره حركة فتح، وخرجت الأزمة الى العلن وتفاقمت بعد اغتيال الرئيس الراحل ياسر عرفات، الذي كان الزعيم التاريخي لحركة فتح ومجمل الحركة الوطنية الفلسطينية، وحافظ على وحدتها تحت قيادته رغم العواصف العاتية والتطورات التي شهدتها القضية الفلسطينية خلال العقود الماضية.لقد أدت الأزمة الى هزيمة "فتح" في الانتخابات التشريعية الأخيرة والى خسارتها السلطة في قطاع غزة، والى ابعادها عن حكومة سلام فياض الأولى التي وافقت عليها تحت تأثير صدمة الهزيمة، ولأنها تصورت أن الحكومة لن تعمر سوى شهر واحد او اثنين اوثلاثة.والآن تتلقى "فتح" ضربة أخرى بتمثيلها بالنيابة عنها في حكومة سلام فياض الثانية، ضربة تزيد من إضعافها وتشظيها، دون أن تتمكن من تحقيق الهدف الذي شكلت من أجله، وهو تشكيل حكومة قوية مدعومه من م.ت.ف وحركة فتح، يتسلح بها الرئيس أبو مازن عشية لقائه الأول مع الرئيس الأميركي باراك أوباما. وبذلك خرج الجميع "فتح والحكومة" خاسرين.لولم تكن "فتح" في حالة سيئة جدا، لما تم القفز عن هيئاتها (اللجنة المركزية والمجلس الثوري وكتلة "فتح" البرلمانية في المشاورات لتشكيل الحكومة).فـ"فتح" بحكم أنها العمود الفقري ل م.ت.ف، وبعد خروج "حماس" بعد الأنقسام والانقلاب وتعطيل المجلس التشريعي، هي التي يمكن أن تعطي الثقة أوتحجبها عن الحكومة.لذا من حق فتح أن يتم التشاور معها ، و ان تشارك مشاركة كامله في تشكيل الحكومة و تحديد برنامجها و خطة عملها ، و لا يكفي هنا أن يقال أن الحكومة حكومة الرئيس و هو يختارها كما يشاء، و هو في نفس الوقت القائد العام لحركة فتح .
أن تشكيل الحكومة وفقا للدستور من صلاحيات الرئيس ، و لكن الرئيس ملزم من خلال رئيس الحكومة الذي يختاره بالتشاور مع الكتل البرلمانية حتى يشكل حكومة يمكن أن تحظى بثقة المجلس التشريعي .أن شلل المجلس التشريعي يوجب التشاور مع الكتل البرلمانية بصورة اكبر من السابق للتعويض عن غياب أو نقص الشرعية ، والا يكون تشكيل الحكومة بمعزل عن مشاركة و موافقة الكتلة الرئيسية نوعا من الأنقلاب على الشرعية .إن انقلاب "حماس" على السلطة، مهما كانت مبرراته، استخدم عن حق، لتبرير تجاوزها. فما هو المبرر الذي يمكن اللجوء اليه لتبرير تجاوز حركة فتح، أو اذا شئنا الدقة، تجاوز كتلها البرلمانية، الجهة المخولة للمشاركة بتشكيل الحكومة بحكم أنها تضم النواب المنتخبين من الشعب!!!!!!.يمكن أن يقال لتبرير ما حدث، إن "فتح" ارادت أن يكون رئيس الحكومة ونائبه ووزير الداخلية منها، وهذا قول تنفيه كتلة "فتح"، وتقول انها طرحت ذلك بعد تهميش حركة فتح أثناء تشكيل الحكومة. إذا كان هذا الامر صحيحا، فمن حق "فتح" ذلك، فهي صاحبة الحجم الاكبر ومن الشرعي ان تطالب بأن تحكم مباشرة.
ويقال ايضا ان الدعم الدولي الذي تتلقاه السلطة يمكن ان يتضرر اذا ترأست "فتح" الحكومة بحكم ان شخصية سلام فياض مقبولة دوليا، والحكومة التي يترأسها لديها فرصة اكبر للحصول على الدعم الدولي. وهذا القول، حتى إذا كان صحيحا، ينطوي على اساءة بحق الشعب الفلسطيني وكرامته، وبحق سلام فياض نفسه، لانه يعني اننا مفترض بنا ان نشكل الحكومة وفقا للشروط الدولية .في البداية قيل لنا ان ترؤس "حماس" للحكومة او مشاركتها في الحكومة، دون التزام بالشروط الدولية، يسبب المقاطعة الدولية للحكومة، ولقد تم الخضوع لهذا المنطق، بدلا من التمسك الحازم بأن الحكومة يجب ان تحظى اولا واساسا بثقة الشعب الفلسطيني، حتى تكون قادرة على تحقيق مصالحه واهدافه وحقوقه.ان الأصل بالامور ان الحكومة التي يختارها الشعب ويؤيدها، من المفترض انها تسعى لكي تكون مقبولة دوليا، لا ان نتصرف عكس ذلك، بحيث وضعنا القبول الدولي شرطا لتشكيل الحكومة.بعد ذلك، قيل ويقال لنا ايضا ان ترؤس "فتح" للحكومة، سيؤدي الى خسارة الدعم الدولي. اذا استمر هذا المنطق سيد الموقف، وفي ظل الأزمة المالية التي بدأت تعيشها حكومة تسيير الاعمال، في الشهور الاخيرة، والتي من المتوقع ان تستمر بعد تشكيل الحكومة الثالثة عشرة، لن يطول الوقت حتى يطلب منا تقديم ثمن إضافي لإعادة الدعم الدولي أو للحفاظ عليه، وهكذا دواليك حتى نخسر ما تبقى لنا من حقوق ومكتسبات وكرامة وقرار فلسطيني وطني مستقل.
ان اوروبا والولايات المتحدة الاميركية، تماطلان بالوفاء بالالتزامات التي قطعوها على انفسهم في مؤتمر باريس لدعم السلطة. ليس لأن حكومة تسيير الاعمال قد استقالت، فهي مستقيلة منذ أن سميت كذلك، بل لانهم لا يريدون دفع اموالهم دون معرفة المسار السياسي للمنطقة. فالجميع بانتظار السياسة الاميركية للرئيس باراك اوباما إزاء المنطقة، وكيف ستتعامل معها السلطة الفلسطينية. فإذا تجاوبت معها يستمر الدعم ويمكن ان يزيد قليلا. وإذا لم تتجاوب او تمنعت تستمر الأزمة وربما تتفاقم اكثر.فالمجتمع الدولي ليس جمعية خيرية، لذلك يريد مقابلاً للأموال التي يقدمها. ان ما سبق لا يكفي وحده لتفسير او تبرير ما حدث، بل وحده يوحي بأن الحكمة بأن نفعل ما فعلناه. ان المجتمع الدولي الذي يرى الفلسطينيين منقسمين وضعفاء ودون خيارات وبدائل ولا اوراق قوة أو ضغط في أيديهم، يجد ان من السهل الضغط عليهم بدلاً من الضغط على اسرائيل التي تشكل الطرف القوي المحتل، اما اذا وجدهم موحدين ويطرحون برنامجا منسجما مع الشرعية الدولية دون خضوع لشروط اللجنة الرباعية الظالمة، وبأيديهم أسلحة وأوراق أهمها عدالة قضيتهم والمقاومة، والدعم العربي والاسلامي والعالمي والتحرري، سيضطر للتعامل معهم ودعمهم. فلا يمكن للعالم ان يقاطع الفلسطينيين جميعا. فاذا توحدنا على اسس وطنية واقعية سنفرض على العالم ان يتعامل معنا.وحتى تكتمل الصورة، يجب ان نضيف ان الدول العربية لا تقدم المساعدات التي وعدت بها بانتظام، لانها ترى الفلسطينيين ضعفاء ومنقسمين وليس لديهم قرار، واذا توحدنا سيساعدنا العرب او على الاقل الكثير منهم، فالقضية الفلسطينية لا تزال تملك تأثيراً كبيرا على العرب والعالم كله، الدليل الدامغ على ذلك موجة التعاطف الدولي العارمة مع الفلسطينيين خلال العدوان الاسرائيلي الاخير على غزة، رغم انه عدوان جاء بتوقيت مناسب لاسرائيل التي أوحت انه "ضد المتطرفين الفلسطينيين الارهابيين" الخارجين عن الشرعية الدولية. فكيف سيكون الحال إذا كنا موحدين.ان نقطة ضعف معارضة أقسام واسعة من "فتح" للحكومة أنها بدت لأسباب تتعلق فقط بالتشاور أو عدم التشاور معها، أو بحصتها في الحكومة، مع ان هذا من حقها تماما، كما اوضحنا آنفاً، بينما المعارضة ستكون اقوى بكثير لدرجة لا يمكن تجاوزها، لو كانت او اصبحت تتعلق بأسباب اخرى تنطلق من ضرورة وضع الاستراتيجية الفلسطينية القادرة على تحقيق الأهداف الوطنية بعد ان فشلت الاستراتيجيات الموضوعة من كل الأطراف الفلسطينية، في تحقيقها الى حد وصولنا الى الوضع المأساوي الذي نحن فيه.ان التركيز على وضع مثل هذه الاستراتيجية، كفيل بوضع الحكومة في خدمة المشروع الوطني، وبإعادة الاعتبار للمقاومة، للوحدة الوطنية .إن استراتيجية كفاحية وطنية واقعية، لا ترضى بأي شكل من الاشكال بالتعايش مع الاحتلال والاستمرار بتآكل البرنامج الوطني، قادرة وحدها على توحيد الشعب، ومن يشذ عنها سيعزل، بحيث لا يمكن ان يستمر الانقسام والانقلاب. فالمطلوب اذاً إعادة الاعتبار للقضية الوطنية، وللاستراتيجية القادرة على تجسيدها من خلال تحقيق الحرية والعودة والاستقلال. فالمسألة أكبر بكثير من الاتفاق أو الاختلاف على تشكيل حكومة.!.
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق