الشرق الأوسط اللندنية
ما تزال مصادر التمويل التي تحصل عليها حركة المقاومة الاسلامية (حماس) لتدعيم سلطتها ومؤسساتها التنظيمية في الاراضي الفلسطينية وخارجها مثار جدل وغموض، استدعى تدخل السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية للبحث عن هذه المصادر والمشغلين لها لوقف نفوذ الحركة المتزايد. في المقابل، تعيش حركة "فتح"، التي يرضى عنها العالم وإسرائيل، أزمة مالية صعبة، بينما تقول حركة "حماس" التي يحاصرها العالم وإسرائيل إن "الخير كثير".
أدركت الحركتان أهمية المال من أجل الاستمرار، ويمكن القول إن الحركتين دفعتا مئات الملايين فقط لغرض التنظيم والاستقطاب، وما زالتا بحاجة لمئات الملايين الأخرى إذا ما أرادتا الاستمرار.
وعندما سيطرت "حماس" على قطاع غزة منتصف تموز (يوليو) 2007، قال الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش، في قصيدته "أنت منذ الآن غيرك": "سألني: هل يدافع حارس جائع عن دارٍ سافر صاحبها، لقضاء إجازته الصيفية في الريفييرا الفرنسية أو الإيطالية.. لا فرق؟ قُلْتُ: لا يدافع!".
ويقول التقرير الذي أعدته "الشرق الاوسط" الصادرة في لندن اليوم الجمعة، إن الجوع لم يكن وحده سببا في هزيمة "فتح"، لكن "حماس" أحسنت استخدام المال. فقد تسلحت جيدا ودربت عناصرها جيدا وأكرمتهم، كما أكرمت كل تابعيها، بينما تركت "فتح" جيشها من دون رواتب، من دون تدريب ومن دون اهتمام، وانشغلت في السلطة على حساب التنظيم.
واليوم لا نبالغ إذا قلنا إنه بسبب "المال" تحكم "حماس" قبضتها على قطاع غزة، بل بنت دولتها هناك وما زالت قادرة على أن تستمر. وبسبب المال، أيضا، فقدت "فتح" القطاع والضفة كذلك. وليس سرا، أن "حماس" حافظت على كونها حركة لا سلطة، وظلت تحصل على المال بكل الطرق الممكنة، عبر الأنفاق والشنط والجمعيات والدول والتجارة، بينما استسلمت "فتح" لكونها السلطة، وتماهت معها إلى حد ذاب فيه الجسمان، وعندما فقدت "فتح" السلطة، وجدت أنها بحاجة إلى أن تعيد التنظيم من جديد. فمن أين تحصل حركتا "فتح" و"حماس" على التمويل؟
تنبهت "حماس" مبكرا، لمسألتين هامتين، أهملتهما "فتح" أكثر بعدما أصحبت الحزب الحاكم في السلطة، وهما المال والإعلام. ومنذ اندلاع الانتفاضة الثانية، لم تترك "حماس" محتاجا ولا فقيرا ولا يتيما، إلا وقدمت له مساعدة مالية أو عينية، وقد حرصت على الاستمرار في ذلك. اذ دفعت لعائلات الشهداء والأسرى والجرحى والمعاقين، في وقت كان هؤلاء يقفون بالطوابير أمام مؤسسات تابعة للسلطة، من أجل الحصول على مساعدة. وبنت منازل عناصرها، التي هدمها الاحتلال، بينما كانت عناصر "فتح" تلجأ إلى بيوت بالإيجار. وحتى داخل السجون الإسرائيلية، كانت عناصر "حماس" مرفهة من ناحية مالية، وتدفع لهم الحركة راتبا مضافا لذلك الذي كان جميع الأسرى يحصلون عليه من السلطة.
تغلغلت "حماس" بذكاء في المجتمع، كان قادتها متواضعين، سيطرت على المساجد، ووقفت على كل المنابر، وأشرفت على حلقات الدروس الدينية. شكلت لجان الزكاة، أقامت مدارس ورياض أطفال، أسست جمعيات خيرية لرعاية اليتيم، وأخرى لتحفيظ القران. أبدا لم يكن ينقص "حماس" المال، وعندما كانت تنتظر عائلة شهيد من "فتح"، الراتب الشهري الذي تصرفه السلطة الوطنية، ولا يزيد عن 200 دولار، كانت عائلة أخرى فيها شهيد من "حماس" تتلقى رعاية كاملة، وكل ما تحتاج، بما في ذلك بناء بيت للعائلة إذا استوجب الأمر، وهناك أمثلة.
كبرت "حماس"، وكبرت جماهيرها، ولم تتراجع الحركة ماليا، بل تقدمت على صعيد التصنيع العسكري، الذي يحتاج إلى أموال كثيرة، وبنت جيشا خاصا، ولاحقا بنت دولتها في القطاع. فمن أين تحصل "حماس" على المال؟
ببساطة قال القيادي في الحركة يحيى موسى لـ"الشرق الأوسط": "إن الخير كثير". وتابع: "أصدقاء الشعب الفلسطيني كثيرون، وأبدا لم يكن توفر المال في أي يوم مشكلة للفلسطينيين".
وتعتبر "حماس" الابن المدلل لحركة الإخوان المسلمين العالمية، وبحسب مصادر في الحركة، فإنها تتلقى تمويلا كبيرا من الإخوان، وكان الإخوان مصدر التمويل الأول. أما كيفية هذا التمويل، فقد اتخذت أشكالا مختلفة، لكن أهمها على الإطلاق، كان تمويل الجمعيات الخيرية والدينية والتعليمية، التي كانت إحدى أذرع "حماس". واستمر هذا التمويل على هذا الشكل، حتى يومنا هذا، وإن كانت إسرائيل ومعها السلطة ودول في العالم، شنت "حربا" على مؤسسات "حماس" من أجل تتبع ووقف أي حوالات مالية لجمعيات الحركة، سواء في غزة أو الضفة.
تضررت "حماس"، لكنها كانت قد أقامت "دولة مؤسسات" حقيقية في غزة والضفة. ولجأت إلى أساليب أخرى لتحويل الأموال، ومن بينها "الشنطة" أي تسليم الأموال يدا بيد، واستخدمت الحركة أنفاقا في غزة لذلك، وعن طريق قادتها المارين عبر معابر القطاع. أما في الضفة فقد لجأت الحركة إلى صيارفة لتحويل الأموال، وبحسب الأجهزة الأمنية الفلسطينية، بعضهم اعترف بإدخال أموال ل"حماس". وكان الجيش الإسرائيلي، شن حملة واسعة، تحت اسم "البدلة الشخصية"، لاعتقال صيارفة العام الماضي، وصادر مبالغ مالية تصل إلى 3 ملايين شيكل (حوالي 850 ألف دولار). وقال إنه وضع يده على وثائق هامة خلال تفتيش منازل 14 صرافا. وقالت إسرائيل، إن الأموال تأتي من منظمات خارج البلاد إلى حساب صيارفة عرب، ومن ثم إلى حساب الصيارفة الفلسطينيين، دون رقابة السلطة الفلسطينية.
أبلغ الإسرائيليون السلطة، أن "حماس" تدير حكومة خاصة بها داخل الحكومة الفلسطينية، ومن أجل هدم هذه الحكومة الحمساوية، أغلقت السلطة جمعيات ومدارس ومؤسسات تابعة لـ"حماس"، وقامت بعزل إدارات بعض الجمعيات وتعيين إدارات جديدة لتسييرها، فضلا عن أنها تفرض رقابة مشددة على أنشطتها.
أما المسألة الأولى التي لاحقتها السلطة وحرصت على إبعاد عناصر "حماس" عنها، فكانت لجان الزكاة، إذ أعادت تشكليها من جديد العام لماضي.
وفي الماضي، عملت جمعية "الإصلاح الخيرية" كإحدى أكبر جمعيات الحركة، وكانت كما قالت المصادر، ترعى الفقراء وتقيم المدارس وتشتري أراضي، وتوظف أبناء "حماس"، وتقوم بإقراض البعض أحيانا أخرى.
أما داعم هذه الجمعية الرئيسي، فكان "ائتلاف الخير" الذي يرأسه الشيخ يوسف القرضاوي، مثل مؤسسة القرضاوي عملت وما زالت تعمل مؤسسات أخرى، تتبع تنظيم الإخوان.
وكانت مصادر إسرائيلية أكدت أن "أنبوب المال" الذي يغذي حركة "حماس"، يبدأ من "نيوجيرسي" و"تكساس" عبر أوروبا في"فتح" صنبوره الرئيسي في دمشق وفمه في جنين وجباليا.
وبحسب الإسرائيليين، "في قلب شبكة التمويل العالمية لحماس يوجد التنظيم العالمي المسمى ائتلاف الخير".
وقبل يومين، قضت محكمة أميركية في مدينة دالاس، بسجن 5 من رؤساء أكبر جمعية إسلامية خيرية في أميركا لمدد طويلة بعد إدانتهم بتحويل ملايين الدولارات لحركة "حماس". وقضت المحكمة بالسجن عشرين عاما على مفيد عبد القادر، الأخ غير الشقيق لخالد مشعل، بتهمة دعم منظمة "إرهابية"، فيما قضت بعشرات السنوات على أربعة آخرين، من بينهم محمد المزين، قريب موسى أبو مرزوق، وهو نائب مشعل.
أما شكري أبو بكر، وغسان العشي، اللذان اعتبرتهما المحكمة مسؤولين عن تأسيس "مؤسسة الأرض المقدسة" فقد حوكموا بالسجن لمدة 65 عاما.
وجاءت الأحكام، التي تشدد القضاة بها، بعد مضي نحو ستة أشهر على إدانة هيئة محلفين عليا لمؤسسة الأرض المقدسة، واتهامها بالتآمر لمساندة منظمة "إرهابية" أجنبية وغسل الأموال والاحتيال الضريبي وتهم أخرى.
وكانت المؤسسة ومقرها في إحدى ضواحي دالاس من أكبر المؤسسات الخيرية الإسلامية في الولايات المتحدة، قبل أن تغلقها الحكومة في أعقاب هجمات 11 من أيلول ( سبتمبر) عام 2001.
وفي 2004 أعلن الرئيس الأميركي السابق، جورج بوش، أنه تم تجميد أرصدة "مؤسسة الأرض المقدسة"، ومجموعتي تمويل أخريتين، وهما "بنك الأقصى العالمي"، ومجموعة "بيت المال الاستثمارية"، ومقرهما الأراضي الفلسطينية. وقال بوش، إن المجموعات الثلاث على صلة مباشرة بـ"حماس"، وقال بوش إن الأموال التي تجمعها مؤسسة الأرض المقدسة "تستخدم من قبل حماس لتجنيد الأطفال وتدريب انتحاريين".
وقالت المؤسسة إن أنشطتها تتركز على تقديم المعونات والإغاثة من الكوارث إلى اللاجئين الفلسطينيين والأطفال. وقالت صحيفة "دالاس مورننغ نيوز" إن القاضي رد على دفاع المتهمين: "الفلسطينيون كانوا في وضع بائس لكن هذا لا يبرر مساندة "حماس".
واعتبر موسى أن هذه الحرب الدولية هي حرب على قيم الدين ومحاصرة الفقراء المسلمين في كل مكان، بينما يسمح لمؤسسات تبشيرية، وأخرى تثير النزاعات، بالعمل كيفما شاءت.
وقال موسى: "عندما يحاصر شعب، ويمنع التعامل مع البنوك، ما هو الواجب الوطني، أن نمد يد الإغاثة لشعبنا والقوانين تبيح كافة الطرق، ولن نعدم وسيلة من أجل إيصال المال يدا بيد". وتابع: "نحن أول من يعمل بشفافية، والمنظومة الأميركية الصهيونية، تحاصر كل البنوك، وبالتالي فالعمل عن طريق الشنطة مشروع، وهم (السلطة) يجب أن ينتبهوا لمصادر تمويلهم المغمسة بالدم".
وأكد أن مصادر التمويل للشعب الفلسطيني تبقى مفتوحة. ومضى نحن لا نحتاج لمال الغرب، ونحن في الحكومة العاشرة (حكومة "حماس") لم نكن نحتاج المال، كان متوفرا، لكن المشكلة كانت في إدخال المال، حاصروا البنوك ومنعونا من إدخال المال باليد، فما الحل؟".
وتابع: "كل هذه الظواهر، نقل المال باليد والشنطة وعن طريق الأنفاق التي يتداعى ضدها الكذابون هم من يصنعونها فليرفعوا الحصار وستنتهي كل هذه الوسائل".
وبينما تدير "حماس" حكومة غزة الآن، أكد موسى "إن دولا كثيرة تدفع، ومن بينها إيران والكويت وليبيا والجزائر وقطر، ومؤسسات دينية وخيرية، وناشطون ورجال الخير ومحبون للشعب الفلسطيني".
وتأكيدا لحديث موسى، كان رئيس مجلس الشورى الإيراني علي لاريجاني، أعلن قبل أيام أن بلاده تعتز بدعمها لحركة "حماس" ولحزب الله اللبناني. وقال لاريجاني، إن هذا الدعم هو جزء من التزام إيران في المنطقة بمساعدة جيرانها في محاربة الاحتلال.
وعلى الرغم من أن دولا تدفع ل"حماس" وأخرى تدفع لحكومتها، فقد استفادت "حماس" من تجربة "فتح" في السلطة، فحافظت بخلاف "فتح"، على مؤسساتها وجهازها العسكري، وفصلت بين التنظيم والحكومة.
وكان الناطق باسم "حماس" فوزي برهوم أوضح في تصريحات سابقة لـ"الشرق الأوسط" أن حكومة هنية تعتمد على أربعة مصادر أساسية للتمويل، المصدر الأول: مدخولات خزينة الحكومة من الضرائب والمعارف والعمل الخدماتي والجمركي، الخ. والثاني: استغلال بعض المستوطنات المخلاة في تنمية القطاع الزراعي. والثالث: الموظفون المتطوعون وآخرون متبرعون بالأموال. والرابع: دعم عربي وإسلامي من خارج قطاع غزة، ومن بينها مؤسسات كبيرة تتبرع لصالح الحكومة. بالإضافة إلى الجمعيات الخيرية العالمية التي تمثل مصدرا مهما في تمويل "حماس"، والدعم الذي تقدمه دول تملك الحركة كما أكدت مصادرها لـ"الشرق الأوسط"، محلات ومؤسسات تجارية كبيرة. وعلى سبيل المثال، جمعيات استهلاكية، ومعارض سيارات، ومفروشات، وأجهزة كهربائية، ومحلات كومبيوتر، ومصانع شتى. وفي الضفة الغربية، تنتشر فعلا كما في قطاع غزة، مئات من هذه المؤسسات التجارية الكبيرة، التي يشغلها "رجال أعمال حماس". واخيرا، عملت السلطة الفلسطينية على "تفكيك" هذه الإمبراطورية المالية. وخرج الرئيس الفلسطيني محمود عباس، مرارا، ليعلن أنه لن يتهاون في قضية "غسيل الأموال"، وأن لديهم الكثير من المعتقلين الذين عملوا في غسيل الأموال.
وعلمت "الشرق الأوسط" أن بعض رجال أعمال "حماس"، الذين اعتقلتهم السلطة، اعترفوا بأنهم يديرون مؤسسات بملايين الدولارات. وأكدت مصادر أمنية لـ"الشرق الأوسط" أن جمعيات ومؤسسات بعضها تعليمي كانت تمول شراء أسلحة ل"حماس" وتدعم بنيتها التحتية. وقال مصدر كبير في السلطة لـ"الشرق الأوسط": "ما علاقة مدارس رياض أطفال بتمويل شبكات مسلحة؟ نريد أن نفهم؟". وبالطبع تنفي "حماس" هذه التهم، وتقول إن حرب السلطة تستهدف المقاومة في الضفة الغربية.
وتقول "حماس"، إن الهدف من هذه الهجمة الشرسة، هو تجويع وتركيع الشعب الفلسطيني وكسر إرادته، حتى يرضخ للإملاءات الأميركية والصهيونية، ويقبل بسياسة الأمر الواقع، التي يرسخها هذا الاحتلال. لكن هذه الحرب التي طالت فعلا بعض مؤسسات "حماس" في الضفة، لم تستطع أن تطال مؤسساتها في غزة، بل طردت السلطة من هناك.
وتمتاز مؤسسات "حماس" بأنها شبكة مترابطة وقوية، وقال مصدر مطلع لـ"الشرق الأوسط": "المؤسسات تشتري من بعضها، ولا نذهب إلى مؤسسات أخرى"، بل زاد المصدر الحمساوي في الضفة قائلا، "مثلا إذا ما احتاجت مؤسسة عشرات أجهزة الكومبيوتر، ولا يوجد في تلك المنطقة فإنه يمكن أن تمول الحركة محلا لأجهزة الكومبيوتر". وأضاف "هذا نظام اقتصادي متكامل". وعلى الرغم من أن عمل هذه المؤسسات أصبح أصعب كثيرا في ظل ملاحقة رجال السلطة لكل من يشتبه به، لحساباته ومحلاته وأصول أمواله، إلا أن مثل هذه المؤسسات ما زالت قائمة وتعمل، وقال المصدر: "من الصعب التوصل إلى مصدر التمويل الأول، والمؤسسات تعمل بشكل مهني لا لبس فيه".
وبحسب المصدر "إن الحركة تشغل أموالها في السوق، ليس بسبب الربح فقط، ولكن نحن ممنوعون من وضع الأموال في البنوك الربوية، ولذلك نفضل تشغيل الأموال في السوق والله بارك التجارة".
وأوضح المصدر، أن "حماس" تبحث عن محسوبين عليها، وتثق بهم، وتحولهم إلى رجال أعمال عبر تمويلها لهم بمبالغ طائلة لافتتاح مشروع ما". وتابع "في الحقيقة، إنها مؤسسات "حماس" ويديرها رجال أعمال يعرفون ذلك تماما".
ما تزال مصادر التمويل التي تحصل عليها حركة المقاومة الاسلامية (حماس) لتدعيم سلطتها ومؤسساتها التنظيمية في الاراضي الفلسطينية وخارجها مثار جدل وغموض، استدعى تدخل السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية للبحث عن هذه المصادر والمشغلين لها لوقف نفوذ الحركة المتزايد. في المقابل، تعيش حركة "فتح"، التي يرضى عنها العالم وإسرائيل، أزمة مالية صعبة، بينما تقول حركة "حماس" التي يحاصرها العالم وإسرائيل إن "الخير كثير".
أدركت الحركتان أهمية المال من أجل الاستمرار، ويمكن القول إن الحركتين دفعتا مئات الملايين فقط لغرض التنظيم والاستقطاب، وما زالتا بحاجة لمئات الملايين الأخرى إذا ما أرادتا الاستمرار.
وعندما سيطرت "حماس" على قطاع غزة منتصف تموز (يوليو) 2007، قال الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش، في قصيدته "أنت منذ الآن غيرك": "سألني: هل يدافع حارس جائع عن دارٍ سافر صاحبها، لقضاء إجازته الصيفية في الريفييرا الفرنسية أو الإيطالية.. لا فرق؟ قُلْتُ: لا يدافع!".
ويقول التقرير الذي أعدته "الشرق الاوسط" الصادرة في لندن اليوم الجمعة، إن الجوع لم يكن وحده سببا في هزيمة "فتح"، لكن "حماس" أحسنت استخدام المال. فقد تسلحت جيدا ودربت عناصرها جيدا وأكرمتهم، كما أكرمت كل تابعيها، بينما تركت "فتح" جيشها من دون رواتب، من دون تدريب ومن دون اهتمام، وانشغلت في السلطة على حساب التنظيم.
واليوم لا نبالغ إذا قلنا إنه بسبب "المال" تحكم "حماس" قبضتها على قطاع غزة، بل بنت دولتها هناك وما زالت قادرة على أن تستمر. وبسبب المال، أيضا، فقدت "فتح" القطاع والضفة كذلك. وليس سرا، أن "حماس" حافظت على كونها حركة لا سلطة، وظلت تحصل على المال بكل الطرق الممكنة، عبر الأنفاق والشنط والجمعيات والدول والتجارة، بينما استسلمت "فتح" لكونها السلطة، وتماهت معها إلى حد ذاب فيه الجسمان، وعندما فقدت "فتح" السلطة، وجدت أنها بحاجة إلى أن تعيد التنظيم من جديد. فمن أين تحصل حركتا "فتح" و"حماس" على التمويل؟
تنبهت "حماس" مبكرا، لمسألتين هامتين، أهملتهما "فتح" أكثر بعدما أصحبت الحزب الحاكم في السلطة، وهما المال والإعلام. ومنذ اندلاع الانتفاضة الثانية، لم تترك "حماس" محتاجا ولا فقيرا ولا يتيما، إلا وقدمت له مساعدة مالية أو عينية، وقد حرصت على الاستمرار في ذلك. اذ دفعت لعائلات الشهداء والأسرى والجرحى والمعاقين، في وقت كان هؤلاء يقفون بالطوابير أمام مؤسسات تابعة للسلطة، من أجل الحصول على مساعدة. وبنت منازل عناصرها، التي هدمها الاحتلال، بينما كانت عناصر "فتح" تلجأ إلى بيوت بالإيجار. وحتى داخل السجون الإسرائيلية، كانت عناصر "حماس" مرفهة من ناحية مالية، وتدفع لهم الحركة راتبا مضافا لذلك الذي كان جميع الأسرى يحصلون عليه من السلطة.
تغلغلت "حماس" بذكاء في المجتمع، كان قادتها متواضعين، سيطرت على المساجد، ووقفت على كل المنابر، وأشرفت على حلقات الدروس الدينية. شكلت لجان الزكاة، أقامت مدارس ورياض أطفال، أسست جمعيات خيرية لرعاية اليتيم، وأخرى لتحفيظ القران. أبدا لم يكن ينقص "حماس" المال، وعندما كانت تنتظر عائلة شهيد من "فتح"، الراتب الشهري الذي تصرفه السلطة الوطنية، ولا يزيد عن 200 دولار، كانت عائلة أخرى فيها شهيد من "حماس" تتلقى رعاية كاملة، وكل ما تحتاج، بما في ذلك بناء بيت للعائلة إذا استوجب الأمر، وهناك أمثلة.
كبرت "حماس"، وكبرت جماهيرها، ولم تتراجع الحركة ماليا، بل تقدمت على صعيد التصنيع العسكري، الذي يحتاج إلى أموال كثيرة، وبنت جيشا خاصا، ولاحقا بنت دولتها في القطاع. فمن أين تحصل "حماس" على المال؟
ببساطة قال القيادي في الحركة يحيى موسى لـ"الشرق الأوسط": "إن الخير كثير". وتابع: "أصدقاء الشعب الفلسطيني كثيرون، وأبدا لم يكن توفر المال في أي يوم مشكلة للفلسطينيين".
وتعتبر "حماس" الابن المدلل لحركة الإخوان المسلمين العالمية، وبحسب مصادر في الحركة، فإنها تتلقى تمويلا كبيرا من الإخوان، وكان الإخوان مصدر التمويل الأول. أما كيفية هذا التمويل، فقد اتخذت أشكالا مختلفة، لكن أهمها على الإطلاق، كان تمويل الجمعيات الخيرية والدينية والتعليمية، التي كانت إحدى أذرع "حماس". واستمر هذا التمويل على هذا الشكل، حتى يومنا هذا، وإن كانت إسرائيل ومعها السلطة ودول في العالم، شنت "حربا" على مؤسسات "حماس" من أجل تتبع ووقف أي حوالات مالية لجمعيات الحركة، سواء في غزة أو الضفة.
تضررت "حماس"، لكنها كانت قد أقامت "دولة مؤسسات" حقيقية في غزة والضفة. ولجأت إلى أساليب أخرى لتحويل الأموال، ومن بينها "الشنطة" أي تسليم الأموال يدا بيد، واستخدمت الحركة أنفاقا في غزة لذلك، وعن طريق قادتها المارين عبر معابر القطاع. أما في الضفة فقد لجأت الحركة إلى صيارفة لتحويل الأموال، وبحسب الأجهزة الأمنية الفلسطينية، بعضهم اعترف بإدخال أموال ل"حماس". وكان الجيش الإسرائيلي، شن حملة واسعة، تحت اسم "البدلة الشخصية"، لاعتقال صيارفة العام الماضي، وصادر مبالغ مالية تصل إلى 3 ملايين شيكل (حوالي 850 ألف دولار). وقال إنه وضع يده على وثائق هامة خلال تفتيش منازل 14 صرافا. وقالت إسرائيل، إن الأموال تأتي من منظمات خارج البلاد إلى حساب صيارفة عرب، ومن ثم إلى حساب الصيارفة الفلسطينيين، دون رقابة السلطة الفلسطينية.
أبلغ الإسرائيليون السلطة، أن "حماس" تدير حكومة خاصة بها داخل الحكومة الفلسطينية، ومن أجل هدم هذه الحكومة الحمساوية، أغلقت السلطة جمعيات ومدارس ومؤسسات تابعة لـ"حماس"، وقامت بعزل إدارات بعض الجمعيات وتعيين إدارات جديدة لتسييرها، فضلا عن أنها تفرض رقابة مشددة على أنشطتها.
أما المسألة الأولى التي لاحقتها السلطة وحرصت على إبعاد عناصر "حماس" عنها، فكانت لجان الزكاة، إذ أعادت تشكليها من جديد العام لماضي.
وفي الماضي، عملت جمعية "الإصلاح الخيرية" كإحدى أكبر جمعيات الحركة، وكانت كما قالت المصادر، ترعى الفقراء وتقيم المدارس وتشتري أراضي، وتوظف أبناء "حماس"، وتقوم بإقراض البعض أحيانا أخرى.
أما داعم هذه الجمعية الرئيسي، فكان "ائتلاف الخير" الذي يرأسه الشيخ يوسف القرضاوي، مثل مؤسسة القرضاوي عملت وما زالت تعمل مؤسسات أخرى، تتبع تنظيم الإخوان.
وكانت مصادر إسرائيلية أكدت أن "أنبوب المال" الذي يغذي حركة "حماس"، يبدأ من "نيوجيرسي" و"تكساس" عبر أوروبا في"فتح" صنبوره الرئيسي في دمشق وفمه في جنين وجباليا.
وبحسب الإسرائيليين، "في قلب شبكة التمويل العالمية لحماس يوجد التنظيم العالمي المسمى ائتلاف الخير".
وقبل يومين، قضت محكمة أميركية في مدينة دالاس، بسجن 5 من رؤساء أكبر جمعية إسلامية خيرية في أميركا لمدد طويلة بعد إدانتهم بتحويل ملايين الدولارات لحركة "حماس". وقضت المحكمة بالسجن عشرين عاما على مفيد عبد القادر، الأخ غير الشقيق لخالد مشعل، بتهمة دعم منظمة "إرهابية"، فيما قضت بعشرات السنوات على أربعة آخرين، من بينهم محمد المزين، قريب موسى أبو مرزوق، وهو نائب مشعل.
أما شكري أبو بكر، وغسان العشي، اللذان اعتبرتهما المحكمة مسؤولين عن تأسيس "مؤسسة الأرض المقدسة" فقد حوكموا بالسجن لمدة 65 عاما.
وجاءت الأحكام، التي تشدد القضاة بها، بعد مضي نحو ستة أشهر على إدانة هيئة محلفين عليا لمؤسسة الأرض المقدسة، واتهامها بالتآمر لمساندة منظمة "إرهابية" أجنبية وغسل الأموال والاحتيال الضريبي وتهم أخرى.
وكانت المؤسسة ومقرها في إحدى ضواحي دالاس من أكبر المؤسسات الخيرية الإسلامية في الولايات المتحدة، قبل أن تغلقها الحكومة في أعقاب هجمات 11 من أيلول ( سبتمبر) عام 2001.
وفي 2004 أعلن الرئيس الأميركي السابق، جورج بوش، أنه تم تجميد أرصدة "مؤسسة الأرض المقدسة"، ومجموعتي تمويل أخريتين، وهما "بنك الأقصى العالمي"، ومجموعة "بيت المال الاستثمارية"، ومقرهما الأراضي الفلسطينية. وقال بوش، إن المجموعات الثلاث على صلة مباشرة بـ"حماس"، وقال بوش إن الأموال التي تجمعها مؤسسة الأرض المقدسة "تستخدم من قبل حماس لتجنيد الأطفال وتدريب انتحاريين".
وقالت المؤسسة إن أنشطتها تتركز على تقديم المعونات والإغاثة من الكوارث إلى اللاجئين الفلسطينيين والأطفال. وقالت صحيفة "دالاس مورننغ نيوز" إن القاضي رد على دفاع المتهمين: "الفلسطينيون كانوا في وضع بائس لكن هذا لا يبرر مساندة "حماس".
واعتبر موسى أن هذه الحرب الدولية هي حرب على قيم الدين ومحاصرة الفقراء المسلمين في كل مكان، بينما يسمح لمؤسسات تبشيرية، وأخرى تثير النزاعات، بالعمل كيفما شاءت.
وقال موسى: "عندما يحاصر شعب، ويمنع التعامل مع البنوك، ما هو الواجب الوطني، أن نمد يد الإغاثة لشعبنا والقوانين تبيح كافة الطرق، ولن نعدم وسيلة من أجل إيصال المال يدا بيد". وتابع: "نحن أول من يعمل بشفافية، والمنظومة الأميركية الصهيونية، تحاصر كل البنوك، وبالتالي فالعمل عن طريق الشنطة مشروع، وهم (السلطة) يجب أن ينتبهوا لمصادر تمويلهم المغمسة بالدم".
وأكد أن مصادر التمويل للشعب الفلسطيني تبقى مفتوحة. ومضى نحن لا نحتاج لمال الغرب، ونحن في الحكومة العاشرة (حكومة "حماس") لم نكن نحتاج المال، كان متوفرا، لكن المشكلة كانت في إدخال المال، حاصروا البنوك ومنعونا من إدخال المال باليد، فما الحل؟".
وتابع: "كل هذه الظواهر، نقل المال باليد والشنطة وعن طريق الأنفاق التي يتداعى ضدها الكذابون هم من يصنعونها فليرفعوا الحصار وستنتهي كل هذه الوسائل".
وبينما تدير "حماس" حكومة غزة الآن، أكد موسى "إن دولا كثيرة تدفع، ومن بينها إيران والكويت وليبيا والجزائر وقطر، ومؤسسات دينية وخيرية، وناشطون ورجال الخير ومحبون للشعب الفلسطيني".
وتأكيدا لحديث موسى، كان رئيس مجلس الشورى الإيراني علي لاريجاني، أعلن قبل أيام أن بلاده تعتز بدعمها لحركة "حماس" ولحزب الله اللبناني. وقال لاريجاني، إن هذا الدعم هو جزء من التزام إيران في المنطقة بمساعدة جيرانها في محاربة الاحتلال.
وعلى الرغم من أن دولا تدفع ل"حماس" وأخرى تدفع لحكومتها، فقد استفادت "حماس" من تجربة "فتح" في السلطة، فحافظت بخلاف "فتح"، على مؤسساتها وجهازها العسكري، وفصلت بين التنظيم والحكومة.
وكان الناطق باسم "حماس" فوزي برهوم أوضح في تصريحات سابقة لـ"الشرق الأوسط" أن حكومة هنية تعتمد على أربعة مصادر أساسية للتمويل، المصدر الأول: مدخولات خزينة الحكومة من الضرائب والمعارف والعمل الخدماتي والجمركي، الخ. والثاني: استغلال بعض المستوطنات المخلاة في تنمية القطاع الزراعي. والثالث: الموظفون المتطوعون وآخرون متبرعون بالأموال. والرابع: دعم عربي وإسلامي من خارج قطاع غزة، ومن بينها مؤسسات كبيرة تتبرع لصالح الحكومة. بالإضافة إلى الجمعيات الخيرية العالمية التي تمثل مصدرا مهما في تمويل "حماس"، والدعم الذي تقدمه دول تملك الحركة كما أكدت مصادرها لـ"الشرق الأوسط"، محلات ومؤسسات تجارية كبيرة. وعلى سبيل المثال، جمعيات استهلاكية، ومعارض سيارات، ومفروشات، وأجهزة كهربائية، ومحلات كومبيوتر، ومصانع شتى. وفي الضفة الغربية، تنتشر فعلا كما في قطاع غزة، مئات من هذه المؤسسات التجارية الكبيرة، التي يشغلها "رجال أعمال حماس". واخيرا، عملت السلطة الفلسطينية على "تفكيك" هذه الإمبراطورية المالية. وخرج الرئيس الفلسطيني محمود عباس، مرارا، ليعلن أنه لن يتهاون في قضية "غسيل الأموال"، وأن لديهم الكثير من المعتقلين الذين عملوا في غسيل الأموال.
وعلمت "الشرق الأوسط" أن بعض رجال أعمال "حماس"، الذين اعتقلتهم السلطة، اعترفوا بأنهم يديرون مؤسسات بملايين الدولارات. وأكدت مصادر أمنية لـ"الشرق الأوسط" أن جمعيات ومؤسسات بعضها تعليمي كانت تمول شراء أسلحة ل"حماس" وتدعم بنيتها التحتية. وقال مصدر كبير في السلطة لـ"الشرق الأوسط": "ما علاقة مدارس رياض أطفال بتمويل شبكات مسلحة؟ نريد أن نفهم؟". وبالطبع تنفي "حماس" هذه التهم، وتقول إن حرب السلطة تستهدف المقاومة في الضفة الغربية.
وتقول "حماس"، إن الهدف من هذه الهجمة الشرسة، هو تجويع وتركيع الشعب الفلسطيني وكسر إرادته، حتى يرضخ للإملاءات الأميركية والصهيونية، ويقبل بسياسة الأمر الواقع، التي يرسخها هذا الاحتلال. لكن هذه الحرب التي طالت فعلا بعض مؤسسات "حماس" في الضفة، لم تستطع أن تطال مؤسساتها في غزة، بل طردت السلطة من هناك.
وتمتاز مؤسسات "حماس" بأنها شبكة مترابطة وقوية، وقال مصدر مطلع لـ"الشرق الأوسط": "المؤسسات تشتري من بعضها، ولا نذهب إلى مؤسسات أخرى"، بل زاد المصدر الحمساوي في الضفة قائلا، "مثلا إذا ما احتاجت مؤسسة عشرات أجهزة الكومبيوتر، ولا يوجد في تلك المنطقة فإنه يمكن أن تمول الحركة محلا لأجهزة الكومبيوتر". وأضاف "هذا نظام اقتصادي متكامل". وعلى الرغم من أن عمل هذه المؤسسات أصبح أصعب كثيرا في ظل ملاحقة رجال السلطة لكل من يشتبه به، لحساباته ومحلاته وأصول أمواله، إلا أن مثل هذه المؤسسات ما زالت قائمة وتعمل، وقال المصدر: "من الصعب التوصل إلى مصدر التمويل الأول، والمؤسسات تعمل بشكل مهني لا لبس فيه".
وبحسب المصدر "إن الحركة تشغل أموالها في السوق، ليس بسبب الربح فقط، ولكن نحن ممنوعون من وضع الأموال في البنوك الربوية، ولذلك نفضل تشغيل الأموال في السوق والله بارك التجارة".
وأوضح المصدر، أن "حماس" تبحث عن محسوبين عليها، وتثق بهم، وتحولهم إلى رجال أعمال عبر تمويلها لهم بمبالغ طائلة لافتتاح مشروع ما". وتابع "في الحقيقة، إنها مؤسسات "حماس" ويديرها رجال أعمال يعرفون ذلك تماما".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق