عاش حزب العمل الإسرائيلي فترة نزاع مع الموت في الانتخابات الأخيرة. وتعقبها حاليا فترة عناية مكثفة في صفوف الحكومة العالية. فقد خَشيَ البقاء خارج الحكومة دون أن يكون حتى قائدا للمعارضة. لأول مرة في تاريخه يتم تهميش حزب العمل في السلطة وفي المعارضة في آن.
ولن نخوض هنا في أسباب ذلك، وليست كل الأسباب سياسية، فمنها ما يعود إلى انقراض قواعده الاجتماعية والطبقية وثقافته الطلائعية التأسيسية. ولكن الأهم هو الصيرورة التاريخية شبه التصاعدية منذ العام 1967 التي يتقدم بموجبها اليمين، ويتطابق خطاب اليمين القومي والديني.
ومنذ 1977 عام فقدانه للسلطة وحتى الانتخابات الأخيرة عاد حزب العمل إلى الحكم مرات ثلاث فقط. جرى ذلك دون حصول تغيير في نزوع المجتمع الإسرائيلي المثابر نحو اليمين. عاد العمل إلى سدة الحكم نتيجة لتحالفات مفارقة وهشة، مثل التحالف مع الهجرة اليهودية من جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابقة لفترة قصيرة أوصلت حكومة رابين الثانية إلى السلطة، والتحالف مع تيار معتدل عابر في قيادة حزب شاس، أو مع اليمين العلماني الرافض لتحالفات المتدينين، أو مع المنشقين عن الليكود الذين شكلوا حزب كاديما.
وخلال ذلك ظلت قوة الحزب في تراجع، واستمرت قواعده الاجتماعية بالضمور. ولكن في فترات عودته القصيرة كان الحزب يكرس نمطا في الحكم هو النمط المهيمن في هذا الكيان حتى عندما يحكمه اليمين وحده:
- الحفاظ على ثوابت مثل: أ. قدسية الجيش كأداة حرب وكأداة في عملية بناء الأمة. وتعني القدسية رفعَه فوق النقاشات الحزبية وفوق النقد والمحاسبة بشكل عام. كما تعني تملقه لغرض إثبات الوطنية والتوسع شعبيا.
ب. ثبات العلاقة الأميركية الإسرائيلية والتمسك بها كركيزة إستراتيجية أولى لإسرائيل على الصعيد الإقليمي والعالمي (وحتى على صعيد نمط الحياة مؤخرا) مغلفة بطبقات من التمويهات الثقافية والحضارية.
ج. التأكيد على يهودية الدولة. ويعني التأكيد على يهودية الدولة ما يلي: 1. الحفاظ على أكثرية يهودية. 2. تشجيع الهجرة اليهودية والحفاظ على العلاقة الجوهرية مع ما يسمى بـ"يهود الشتات". 3. التوصل إلى نوع من التسوية بين الشريعة اليهودية والقانون المدني في قضايا الأحوال الشخصية وقانون المواطنة، أي سؤال من هو اليهودي. 4. رفض حق العودة للفلسطينيين بشكل يجعله غير قابل للتفاوض. 5. التخلص من المناطق المحتلة المكتظة بالسكان لمنع تطور مفهوم الدولة ثنائية القومية بناء على تحول الفلسطينيين إلى طلب المواطنة المتساوية إذا استمروا بالعيش تحت الحكم الإسرائيلي في حالة من نظام الفصل العنصري، الـ"أبارتهايد"، لفترة طويلة.
- استمرار المفاوضات يشق العالم العربي إلى معتدلين ومتطرفين، ومحاولة تعزيز القاسم المشترك مع المعتدلين لعزل "المتطرفين".. وينسحب هذا التقسيم على العالم العربي بشكل عام وعلى الفلسطينيين وحتى على المواطنين العرب داخل إسرائيل. مع فروق في تعريف الاعتدال من حلقة إلى أخرى. ويبدو اليمين في المعارضة معترضا على هذه السياسة وهذه التقسيمات، إذ يبدو كمن يشكك بالعرب جميعا من منطلق عنصري، ثم لا يلبث أن ينصاع لهذه التقسيمات بين "عرب أخيار" و"عرب أشرار"، ويمارسها ببراغماتية أكثر من اليسار ذاته.
- يستمر اليسار الإسرائيلي ومن بعده اليمين في استخدام العنف العسكري لغرض منع حتى نشوء أو تطور تهديد عسكري ضد إسرائيل، ولنقل المعركة إلى "أرض العدو" وعدم فرضها على الداخل.. خاصة في حالة نشوء قوة عربية صاروخية أو غيرها مثل عمليات تسلل فعلية مؤثرة ناهيك بحرب فعلية على داخل "أرض إسرائيل"، (وهو ما لم يحدث منذ حرب عام 1948). وفيما يتفق اليسار واليمين على هذه النقطة، يكمن الفرق بينهما في نزعة الأول العسكرية الأكثر وضوحا، وفي توفر مرونة أكبر عنده في إقرار شن الحرب وذلك للاعتبارات التالية:
أ. الرأي العام المعارض في زمن حكمه هو رأي عام يميني يدفع للحرب ويزاود من اليمين. ب. المرونة التي يتمتع بها في المجتمع الدولي. ج. هامش تفاهم أوسع مع القوى العربية المسماة معتدلة، خاصة في ظل ما يسمى بـ"عملية السلام".
- يتفق اليسار واليمين كما قلنا على ثابت العلاقة الأميركية الإسرائيلية. وغالبا ما يزاود اليمين بنبرة وطنية إسرائيلية تؤكد عدم التبعية الكاملة لكل ما يصدر عن الولايات المتحدة. ولكنه يعود ويتعلم بالطريق الصعب عدم العبث بالعلاقة الأميركية الإسرائيلية، وهو ما بات قناعة راسخة منذ العام 1967، وبشكل خاص منذ فترة رابين الأولى في الحكم (1974-1977). هذا لا يعني طبعا أن تمتنع إسرائيل عن التأثير على عملية صنع القرار في الولايات المتحدة عبر ألف آلية وجماعة ضغط في الإعلام والسياسة والثقافة. وغالبا ما تنجح.
أما في الحالات النادرة التي ينشأ فيها خلاف مهما كان تكتيكيا، ولا تنجح إسرائيل بالتأثير على صنع القرار، فإنها تتعلم أن تتكيف مع الرغبة الأميركية محاولةً أن تخفِّف من مرارة الكأس بالمماطلة وبالتسويف والتقارير الكاذبة عن تنفيذ لم يتم، وعن معارضة الرأي العام الإسرائيلي، واحترام رأي المحاكم إذا كانت قضية مثل الاستيطان ومصادرة الأرض عالقة فيها.. وبغيرها من المعيقات التي تتذرع أميركا باحترامها في دولة ديمقراطية، فما بالك بـ"الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط". ولكن في النهاية، إذا بقيت نهاية، وإذا أصرت أميركا، وقلما تصر، فإن إسرائيل تنفِّذ.
- تدير إسرائيل مفاوضات منفصلة مع الدول العربية والفلسطينيين على أساس تفسيرها هي للقرارات الدولية. والهدف هو اعتراف الفلسطينيين والدول العربية بإسرائيل وتطبيع العلاقات معها والاتفاق على ترتيبات أمنية مشتركة. أما الثمن الذي تستعد إسرائيل لدفعه فهو إعادة أقل قدر ممكن من الأرض التي احتلت عام 1967 بحيث تشمل أكبر عدد ممكن من العرب، مقابل أكبر قدر ممكن من التطبيع.
فإسرائيل لا تقدم هذه "التنازلات" عن الأرض مقابل السلام، خاصة وأنه لا تدور حرب بين الدول العربية وإسرائيل، بل هنالك حالة حرب دون حرب في أفضل الحالات. إسرائيل مستعدة إذًا لما تسميه هي تنازلات إقليمية مقابل السلام والتطبيع والترتيبات الأمنية ضد أي شكل من أشكال المقاومة ومقابل الشراكة في المصالح والتعاون ضد كافة أنوع "التطرف".
ويكمن الفرق بين اليمين واليسار في الحكم في هذه النقطة في تقدير كل منهما لحجم "التنازلات" اللازمة كي يقبل العرب، وحجم التطبيع المتوقع من العرب. بالمجمل يتفق اليمين واليسار في إسرائيل على ضرورة استمرار ما يسمى بعملية السلام. ولا يعوِّلان على السلام ذاته في مسألة الأمن، بل يعتبران الأمن قضية منفصلة يجب استمرار الجهد الإسرائيلي بشأنها حتى في ظل عملية السلام.. وعلى شركاء إسرائيل العرب تحمل إحراجها لهم بحروبها ضد المقاومة أثناء وفي ظل "عملية السلام". (هذا إذا بقي من تحرجه، ولو مظهرا، أية عملية عسكرية ضد سوريا أو أي حرب تشنها إسرائيل على لبنان أو غزة).
وبغض النظر عما يقال في المعارك الانتخابية، ففي هذه الهوامش يقع الفرق بين حكومة برئاسة نتنياهو وحكومة برئاسة أولمرت. هل يمكن التعويل على هذا الفرق بتغيير الإستراتيجيات؟ الجواب هو لا. وذلك ليس فقط لضآلة الفوارق بين التيارات الواردة في الحسبان عند تشكيل حكومات في إسرائيل، بل أيضا لأنه لا توجد أصلا إستراتيجيات رسمية عربية غير عملية السلام. (يتخللها من حين لآخر تهديد فلسطيني بلهجة دراماتيكية أنه إذا لم تتوقف إسرائيل عن الاستيطان، أو إذا لم تتوقف عن القصف الوحشي للمدنيين، فسوف تتوقف عملية السلام أو تموت.. وفي كل مرة يرتعد صوت التهديد بموت عملية السلام أكثر ويزداد دراماتيكية، وفي كل مرة يتم توسل الولايات المتحدة للعودة إلى عملية السلام).
وإذا كان الناس يموتون وحقوقهم تنسى فإن عملية السلام حية لا تموت (أستغفر الله العظيم). ولا يستغربن أحد أن لا ترتعد فرائص الناخب الإسرائيلي، ولا ترتج يده قبل التصويت لليبرمان وغيره إزاء إستراتيجية كهذه.
ليس السؤال ما يمكن توقعه من حكومة نتنياهو، بل السؤال حول الظرف العربي والدولي الذي تعمل في إطاره والذي يعيدها إلى الثوابت الراسخة منذ عقود. وإذا تبين بعد عام مثلا أن المهرج ليبرمان يشكل عقبة أمام مثل هذه العودة، فيمكن الاستغناء عنه وفسح المجال لحزب كاديما للعودة إلى الائتلاف بحجة إنقاذ عملية السلام. لنتذكر ذلك!!
ومن هنا فإن هامش التحرك واضح للغاية. كان يمكن الوقوع في منزلقات التقديرات والمضاربات لو وصل نتنياهو إلى السلطة مع ماكين في أميركا. عندها نتفهم (دون أن نوافق) أن يسمح العربي لخياله أن يأخذه إلى مغامرات. كذلك الأمر إلى حد بعيد لو وصل إلى السلطة كل من ليفني وأوباما في الوقت ذاته. أما التركيبة الحالية فتكفي لتحافظ على التوازن الموصوف أعلاه، وعلى الهوامش المشروحة أعلاه.
فبعد أخذ ورد تجري العودة إلى ما يسمى "عملية السلام". ويسبقها نقاش معهود مألوف ممل على الإطار، إطار المفاوضات. وعندما يقبل نتنياهو بأفكار أولمرت، المرفوضة فلسطينيا في حينه، فسيبدو الأمر إنجازا هاما لإدارة أوباما.
في هذه الأثناء يُوَجَّه الضغط للعرب الذين اشترطوا ردا إسرائيليا على مبادرة السلام العربية، ولم تهتز لهم قصبة عندما رفضتها إسرائيل كما هي وقبلت بها فقط أساسا للتفاوض. وعاد العرب يتمسكون بها بصلابة رغم الرفض الإسرائيلي يعضون على الإهانة، ويقبضون على المبادرة كالقابض على جمر الاعتدال. موقف نضالي حقيقي لقوى السلام العربية.
أما إذا جاءت مبادرة أميركية أن يغير العرب مبادرتهم، فيعدلوها بشكل "يعززها" و"يسوقها" لكي يصبح فرضها على إسرائيل ممكنا، فسوف تتدفق الأفكار الخلاقة عن تأجيل حق العودة. (أما كيف تُعَزَّز مبادرة بتعديلها لإرضاء الخصم فمتروك لبلاغة كتاب الأعمدة الناطقين باسم.. الذين سيبدؤون قريبا بالترويج). أما قضية القدس فسوف تكون ساحة الإبداع والتبديع والبديع في إيجاد المخارج والمداخل مثل رفع العلم الفلسطيني فيها مثلا دون أن تنسحب إسرائيل منها.. كما يطاول الإبداع التفريق بين حدود 67 وبين المساحة التي احتلت بحيث تسترجع المساحة دون الحدود.. هذا نقاش يطول. وسوف يطول حتى تبدأ إدارة أوباما بالتحضير للانتخابات الجديدة.
كل هذا لا يهم إسرائيل كثيرا. ما يهمها هو استمرار الحصار لإضعاف المقاومة ودفعها للبحث عن اعتراف دولي بها بدلا عن قضيتها، في ظل تعهد بوقف إطلاق الصورايخ. وما يهمها هو استمرار بناء أجهزة أمنية جديدة لم يحارب أفرادها إسرائيل في مرحلة ما من حياتهم، ولا تعرف منظمة التحرير ولا فتح، بل تعرف الولاء لحكومة السلطة في رام الله فقط. وهذا أمر جار تنفيذه بروية ومثابرة بغض النظر عن التقدم في المفاوضات.
ويهمها استمرار البناء في القدس وحولها. وأخيرا وليس آخرا يهمها استمرار التعاون مع ما يسمى بمحور الاعتدال لخلق قواسم مشتركة ضد إيران.. بحيث، نصل (ويا للهول!!) إلى زمن تضغط فيه كل من إسرائيل والأنظمة العربية الحليفة سوية على الولايات المتحدة لكي لا تذهب الأخيرة بعيدا في إرضاء إيران في الحوار، وأن تبقي الخيار العسكري قائما.
لم يتوقع البعض ربما أن يستقبل العرب نتنياهو وحكومة اليمين في الحكم بتعديلات على مبادرة السلام العربية "تسلح الولايات المتحدة بوسائل للضغط عليه". فقد كان المتوقع التمسك العربي بشروط الحل الدائم، بل واتخاذ خطوات متشددة تقابل تحدي العالم العربي بعد حروب أولمرت بإيصال نتنياهو وليبرمان للحكم. فقد أُخِذَ بعضُنا بالتهويل العربي من قدومه ومن خطر اليمين على عملية السلام، وكأن الأخيرة كانت مزدهرة وفي طريقها إلى تطبيق حل دائم. ولكن هذا التهويل العربي لم يتجاوز التأكيد على عملية السلام فهي مهمة جدا للأنظمة.
وموقف حكومة نتنياهو المتشدد من إيران يعتبر عند بعض الأنظمة العربية بادرة مشجعة ولا تفوَّت للتعاون وحتى للضغط المشترك على أميركا، ولكنه لا يشكل قاعدة مشتركة كافية للعمل من أجل استعادة ثقة أميركا بدور هذه الأنظمة، من أجل ذلك لا بد من عودة محرك عملية السلام للعمل.
صرنا نسمع عن أفكار تشجع على ممارسة أشكال من التطبيع مع إسرائيل قد تجد إعجابا لدى رأيها العام وتؤكد جدية العرب في السلام. وسبق أن أكدنا في هذا الموقع رأينا، أن من يتمسك بمبادرة السلام بعقلية المهزوم حين يرفضها الخصم لا بد أن يعود فيعدلها لتجد لديه قبولا.
ولن نخوض هنا في أسباب ذلك، وليست كل الأسباب سياسية، فمنها ما يعود إلى انقراض قواعده الاجتماعية والطبقية وثقافته الطلائعية التأسيسية. ولكن الأهم هو الصيرورة التاريخية شبه التصاعدية منذ العام 1967 التي يتقدم بموجبها اليمين، ويتطابق خطاب اليمين القومي والديني.
ومنذ 1977 عام فقدانه للسلطة وحتى الانتخابات الأخيرة عاد حزب العمل إلى الحكم مرات ثلاث فقط. جرى ذلك دون حصول تغيير في نزوع المجتمع الإسرائيلي المثابر نحو اليمين. عاد العمل إلى سدة الحكم نتيجة لتحالفات مفارقة وهشة، مثل التحالف مع الهجرة اليهودية من جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابقة لفترة قصيرة أوصلت حكومة رابين الثانية إلى السلطة، والتحالف مع تيار معتدل عابر في قيادة حزب شاس، أو مع اليمين العلماني الرافض لتحالفات المتدينين، أو مع المنشقين عن الليكود الذين شكلوا حزب كاديما.
وخلال ذلك ظلت قوة الحزب في تراجع، واستمرت قواعده الاجتماعية بالضمور. ولكن في فترات عودته القصيرة كان الحزب يكرس نمطا في الحكم هو النمط المهيمن في هذا الكيان حتى عندما يحكمه اليمين وحده:
- الحفاظ على ثوابت مثل: أ. قدسية الجيش كأداة حرب وكأداة في عملية بناء الأمة. وتعني القدسية رفعَه فوق النقاشات الحزبية وفوق النقد والمحاسبة بشكل عام. كما تعني تملقه لغرض إثبات الوطنية والتوسع شعبيا.
ب. ثبات العلاقة الأميركية الإسرائيلية والتمسك بها كركيزة إستراتيجية أولى لإسرائيل على الصعيد الإقليمي والعالمي (وحتى على صعيد نمط الحياة مؤخرا) مغلفة بطبقات من التمويهات الثقافية والحضارية.
ج. التأكيد على يهودية الدولة. ويعني التأكيد على يهودية الدولة ما يلي: 1. الحفاظ على أكثرية يهودية. 2. تشجيع الهجرة اليهودية والحفاظ على العلاقة الجوهرية مع ما يسمى بـ"يهود الشتات". 3. التوصل إلى نوع من التسوية بين الشريعة اليهودية والقانون المدني في قضايا الأحوال الشخصية وقانون المواطنة، أي سؤال من هو اليهودي. 4. رفض حق العودة للفلسطينيين بشكل يجعله غير قابل للتفاوض. 5. التخلص من المناطق المحتلة المكتظة بالسكان لمنع تطور مفهوم الدولة ثنائية القومية بناء على تحول الفلسطينيين إلى طلب المواطنة المتساوية إذا استمروا بالعيش تحت الحكم الإسرائيلي في حالة من نظام الفصل العنصري، الـ"أبارتهايد"، لفترة طويلة.
- استمرار المفاوضات يشق العالم العربي إلى معتدلين ومتطرفين، ومحاولة تعزيز القاسم المشترك مع المعتدلين لعزل "المتطرفين".. وينسحب هذا التقسيم على العالم العربي بشكل عام وعلى الفلسطينيين وحتى على المواطنين العرب داخل إسرائيل. مع فروق في تعريف الاعتدال من حلقة إلى أخرى. ويبدو اليمين في المعارضة معترضا على هذه السياسة وهذه التقسيمات، إذ يبدو كمن يشكك بالعرب جميعا من منطلق عنصري، ثم لا يلبث أن ينصاع لهذه التقسيمات بين "عرب أخيار" و"عرب أشرار"، ويمارسها ببراغماتية أكثر من اليسار ذاته.
- يستمر اليسار الإسرائيلي ومن بعده اليمين في استخدام العنف العسكري لغرض منع حتى نشوء أو تطور تهديد عسكري ضد إسرائيل، ولنقل المعركة إلى "أرض العدو" وعدم فرضها على الداخل.. خاصة في حالة نشوء قوة عربية صاروخية أو غيرها مثل عمليات تسلل فعلية مؤثرة ناهيك بحرب فعلية على داخل "أرض إسرائيل"، (وهو ما لم يحدث منذ حرب عام 1948). وفيما يتفق اليسار واليمين على هذه النقطة، يكمن الفرق بينهما في نزعة الأول العسكرية الأكثر وضوحا، وفي توفر مرونة أكبر عنده في إقرار شن الحرب وذلك للاعتبارات التالية:
أ. الرأي العام المعارض في زمن حكمه هو رأي عام يميني يدفع للحرب ويزاود من اليمين. ب. المرونة التي يتمتع بها في المجتمع الدولي. ج. هامش تفاهم أوسع مع القوى العربية المسماة معتدلة، خاصة في ظل ما يسمى بـ"عملية السلام".
- يتفق اليسار واليمين كما قلنا على ثابت العلاقة الأميركية الإسرائيلية. وغالبا ما يزاود اليمين بنبرة وطنية إسرائيلية تؤكد عدم التبعية الكاملة لكل ما يصدر عن الولايات المتحدة. ولكنه يعود ويتعلم بالطريق الصعب عدم العبث بالعلاقة الأميركية الإسرائيلية، وهو ما بات قناعة راسخة منذ العام 1967، وبشكل خاص منذ فترة رابين الأولى في الحكم (1974-1977). هذا لا يعني طبعا أن تمتنع إسرائيل عن التأثير على عملية صنع القرار في الولايات المتحدة عبر ألف آلية وجماعة ضغط في الإعلام والسياسة والثقافة. وغالبا ما تنجح.
أما في الحالات النادرة التي ينشأ فيها خلاف مهما كان تكتيكيا، ولا تنجح إسرائيل بالتأثير على صنع القرار، فإنها تتعلم أن تتكيف مع الرغبة الأميركية محاولةً أن تخفِّف من مرارة الكأس بالمماطلة وبالتسويف والتقارير الكاذبة عن تنفيذ لم يتم، وعن معارضة الرأي العام الإسرائيلي، واحترام رأي المحاكم إذا كانت قضية مثل الاستيطان ومصادرة الأرض عالقة فيها.. وبغيرها من المعيقات التي تتذرع أميركا باحترامها في دولة ديمقراطية، فما بالك بـ"الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط". ولكن في النهاية، إذا بقيت نهاية، وإذا أصرت أميركا، وقلما تصر، فإن إسرائيل تنفِّذ.
- تدير إسرائيل مفاوضات منفصلة مع الدول العربية والفلسطينيين على أساس تفسيرها هي للقرارات الدولية. والهدف هو اعتراف الفلسطينيين والدول العربية بإسرائيل وتطبيع العلاقات معها والاتفاق على ترتيبات أمنية مشتركة. أما الثمن الذي تستعد إسرائيل لدفعه فهو إعادة أقل قدر ممكن من الأرض التي احتلت عام 1967 بحيث تشمل أكبر عدد ممكن من العرب، مقابل أكبر قدر ممكن من التطبيع.
فإسرائيل لا تقدم هذه "التنازلات" عن الأرض مقابل السلام، خاصة وأنه لا تدور حرب بين الدول العربية وإسرائيل، بل هنالك حالة حرب دون حرب في أفضل الحالات. إسرائيل مستعدة إذًا لما تسميه هي تنازلات إقليمية مقابل السلام والتطبيع والترتيبات الأمنية ضد أي شكل من أشكال المقاومة ومقابل الشراكة في المصالح والتعاون ضد كافة أنوع "التطرف".
ويكمن الفرق بين اليمين واليسار في الحكم في هذه النقطة في تقدير كل منهما لحجم "التنازلات" اللازمة كي يقبل العرب، وحجم التطبيع المتوقع من العرب. بالمجمل يتفق اليمين واليسار في إسرائيل على ضرورة استمرار ما يسمى بعملية السلام. ولا يعوِّلان على السلام ذاته في مسألة الأمن، بل يعتبران الأمن قضية منفصلة يجب استمرار الجهد الإسرائيلي بشأنها حتى في ظل عملية السلام.. وعلى شركاء إسرائيل العرب تحمل إحراجها لهم بحروبها ضد المقاومة أثناء وفي ظل "عملية السلام". (هذا إذا بقي من تحرجه، ولو مظهرا، أية عملية عسكرية ضد سوريا أو أي حرب تشنها إسرائيل على لبنان أو غزة).
وبغض النظر عما يقال في المعارك الانتخابية، ففي هذه الهوامش يقع الفرق بين حكومة برئاسة نتنياهو وحكومة برئاسة أولمرت. هل يمكن التعويل على هذا الفرق بتغيير الإستراتيجيات؟ الجواب هو لا. وذلك ليس فقط لضآلة الفوارق بين التيارات الواردة في الحسبان عند تشكيل حكومات في إسرائيل، بل أيضا لأنه لا توجد أصلا إستراتيجيات رسمية عربية غير عملية السلام. (يتخللها من حين لآخر تهديد فلسطيني بلهجة دراماتيكية أنه إذا لم تتوقف إسرائيل عن الاستيطان، أو إذا لم تتوقف عن القصف الوحشي للمدنيين، فسوف تتوقف عملية السلام أو تموت.. وفي كل مرة يرتعد صوت التهديد بموت عملية السلام أكثر ويزداد دراماتيكية، وفي كل مرة يتم توسل الولايات المتحدة للعودة إلى عملية السلام).
وإذا كان الناس يموتون وحقوقهم تنسى فإن عملية السلام حية لا تموت (أستغفر الله العظيم). ولا يستغربن أحد أن لا ترتعد فرائص الناخب الإسرائيلي، ولا ترتج يده قبل التصويت لليبرمان وغيره إزاء إستراتيجية كهذه.
ليس السؤال ما يمكن توقعه من حكومة نتنياهو، بل السؤال حول الظرف العربي والدولي الذي تعمل في إطاره والذي يعيدها إلى الثوابت الراسخة منذ عقود. وإذا تبين بعد عام مثلا أن المهرج ليبرمان يشكل عقبة أمام مثل هذه العودة، فيمكن الاستغناء عنه وفسح المجال لحزب كاديما للعودة إلى الائتلاف بحجة إنقاذ عملية السلام. لنتذكر ذلك!!
ومن هنا فإن هامش التحرك واضح للغاية. كان يمكن الوقوع في منزلقات التقديرات والمضاربات لو وصل نتنياهو إلى السلطة مع ماكين في أميركا. عندها نتفهم (دون أن نوافق) أن يسمح العربي لخياله أن يأخذه إلى مغامرات. كذلك الأمر إلى حد بعيد لو وصل إلى السلطة كل من ليفني وأوباما في الوقت ذاته. أما التركيبة الحالية فتكفي لتحافظ على التوازن الموصوف أعلاه، وعلى الهوامش المشروحة أعلاه.
فبعد أخذ ورد تجري العودة إلى ما يسمى "عملية السلام". ويسبقها نقاش معهود مألوف ممل على الإطار، إطار المفاوضات. وعندما يقبل نتنياهو بأفكار أولمرت، المرفوضة فلسطينيا في حينه، فسيبدو الأمر إنجازا هاما لإدارة أوباما.
في هذه الأثناء يُوَجَّه الضغط للعرب الذين اشترطوا ردا إسرائيليا على مبادرة السلام العربية، ولم تهتز لهم قصبة عندما رفضتها إسرائيل كما هي وقبلت بها فقط أساسا للتفاوض. وعاد العرب يتمسكون بها بصلابة رغم الرفض الإسرائيلي يعضون على الإهانة، ويقبضون على المبادرة كالقابض على جمر الاعتدال. موقف نضالي حقيقي لقوى السلام العربية.
أما إذا جاءت مبادرة أميركية أن يغير العرب مبادرتهم، فيعدلوها بشكل "يعززها" و"يسوقها" لكي يصبح فرضها على إسرائيل ممكنا، فسوف تتدفق الأفكار الخلاقة عن تأجيل حق العودة. (أما كيف تُعَزَّز مبادرة بتعديلها لإرضاء الخصم فمتروك لبلاغة كتاب الأعمدة الناطقين باسم.. الذين سيبدؤون قريبا بالترويج). أما قضية القدس فسوف تكون ساحة الإبداع والتبديع والبديع في إيجاد المخارج والمداخل مثل رفع العلم الفلسطيني فيها مثلا دون أن تنسحب إسرائيل منها.. كما يطاول الإبداع التفريق بين حدود 67 وبين المساحة التي احتلت بحيث تسترجع المساحة دون الحدود.. هذا نقاش يطول. وسوف يطول حتى تبدأ إدارة أوباما بالتحضير للانتخابات الجديدة.
كل هذا لا يهم إسرائيل كثيرا. ما يهمها هو استمرار الحصار لإضعاف المقاومة ودفعها للبحث عن اعتراف دولي بها بدلا عن قضيتها، في ظل تعهد بوقف إطلاق الصورايخ. وما يهمها هو استمرار بناء أجهزة أمنية جديدة لم يحارب أفرادها إسرائيل في مرحلة ما من حياتهم، ولا تعرف منظمة التحرير ولا فتح، بل تعرف الولاء لحكومة السلطة في رام الله فقط. وهذا أمر جار تنفيذه بروية ومثابرة بغض النظر عن التقدم في المفاوضات.
ويهمها استمرار البناء في القدس وحولها. وأخيرا وليس آخرا يهمها استمرار التعاون مع ما يسمى بمحور الاعتدال لخلق قواسم مشتركة ضد إيران.. بحيث، نصل (ويا للهول!!) إلى زمن تضغط فيه كل من إسرائيل والأنظمة العربية الحليفة سوية على الولايات المتحدة لكي لا تذهب الأخيرة بعيدا في إرضاء إيران في الحوار، وأن تبقي الخيار العسكري قائما.
لم يتوقع البعض ربما أن يستقبل العرب نتنياهو وحكومة اليمين في الحكم بتعديلات على مبادرة السلام العربية "تسلح الولايات المتحدة بوسائل للضغط عليه". فقد كان المتوقع التمسك العربي بشروط الحل الدائم، بل واتخاذ خطوات متشددة تقابل تحدي العالم العربي بعد حروب أولمرت بإيصال نتنياهو وليبرمان للحكم. فقد أُخِذَ بعضُنا بالتهويل العربي من قدومه ومن خطر اليمين على عملية السلام، وكأن الأخيرة كانت مزدهرة وفي طريقها إلى تطبيق حل دائم. ولكن هذا التهويل العربي لم يتجاوز التأكيد على عملية السلام فهي مهمة جدا للأنظمة.
وموقف حكومة نتنياهو المتشدد من إيران يعتبر عند بعض الأنظمة العربية بادرة مشجعة ولا تفوَّت للتعاون وحتى للضغط المشترك على أميركا، ولكنه لا يشكل قاعدة مشتركة كافية للعمل من أجل استعادة ثقة أميركا بدور هذه الأنظمة، من أجل ذلك لا بد من عودة محرك عملية السلام للعمل.
صرنا نسمع عن أفكار تشجع على ممارسة أشكال من التطبيع مع إسرائيل قد تجد إعجابا لدى رأيها العام وتؤكد جدية العرب في السلام. وسبق أن أكدنا في هذا الموقع رأينا، أن من يتمسك بمبادرة السلام بعقلية المهزوم حين يرفضها الخصم لا بد أن يعود فيعدلها لتجد لديه قبولا.
10-5-2009
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق